recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

ماذا تعرف عن الجدال

ماذا تعرف عن الجدال
بقلم / محمـــد الدكـــرورى




إن الجدال على النحو مجلبة للعداوة وذريعة للكذب وباباً من أبواب الفتنة واتباع الهوى وسبباً من اسباب التفكك الإجتماعى، والجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل، أي أحكمت فتله ومنه الجدال، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه، وقيل أن الأصل في الجدال هو الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة، وإن ترك الجدال والمراء والخصومات محمود شرعًا، وخاصة إذا كان ذلك في الدين، ومع أهل الأهواء والبدع، وقد وردت في ذلك بعض الأحاديث والآثار، ومنها: قول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه". رواه أبو داود وحسنه الألباني. والمراء هو الجدال.
وإن من جراء التعصب الذى يؤل الى التنابز والتنافر وتنامى الحقد والكراهية، قد قال ابن عباس، رضي الله عنهما " كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً" وكان الحسن البصرى إذ سمع قوماً يتجادلون قال " هؤلاء ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقل ورعهم فتكلموا " وقد روى الآجرى بسنده عن مسلم بن يسار رحمه الله أنه قال : " إياكم والمراءَ ، فإنه ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته" وقال القرطبي رحمه الله عن الجدال " الجدال وزنه فعال من المجادلة، وهي مشتقة من الجَدل وهو الفتل، ومنه زمام مجدول" وقيل أن الجدال هي مشتقة من الجدالة التي هي الأرض، وإن الجدال من آثاره هو تغليف القلب بالقسوة ونزوع الخشية، وكراهية الحق فى جانب المغلوب، وتنامى الغرور والكبر فى جانب الغالب، فضلاً عما يجلبه للنفس من هم وغم.
وذلك من حيث أنه شهوة النفس إذا ثارت لابد من إشباعها، وإلا أصابت صاحبها بالتوتر والقلق اللذان يؤلان الى الكدر والحزن، وقال ابن عباس لمعاوية رضي الله عنهما " هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي ؟ قال : وما تصنع بذلك ؟ أَشْغَب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرك " وقال ابن أبي الزناد : " ما أقام الجدل شيئاً إلا كسره جدل مثله " والجدال نوعان، وهما جدال محمود، وهو الجدال الذي يكون هدفه وغايته إظهار الحق، وتقريره، ويكون ذلك بإقامة الحجّة، والدليل، والبراهين التي تدل على صدق الحق، وهذا الجدال أُمر به النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنه، وجادلهم بالتى هى أحسن ) ومن أمثلة هذا الجدال هو جدال ابن عباس الخوارج.
وكان ذلك فى زمن علي بن أبي طالب، وإقامة الحجة عليهم، وجدال الإمام أحمد للمعتزلة، وجدال ابن تيميةَ أهل البدع، وأما عن الجدال المذموم، وهو الجدال الذي يكون الهدف منه تقرير الباطل بعد أن ظهر الحق، أو طلب الجاه، والمال، وقد حذرت النصوص من هذا الضرب من الجدال، منها وله تعالى: ( ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ) ومنها جدال المماراة بغية مجاراة العلماء، ومماراة السفهاء، وإرادة لانتصار قوله، وأيضا من أنواع الجدال الجاز، وهو الجدال لتثبيت الحق ودحض الشبهات ومنه جدال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لقومه لبيان سبيل الحق وكشف ما عندهم من الشبهات، وهذا النوع من الجدال أحياناً يكون واجباً، وأحيانا يكون مستحبا، فيكون واجبا إذا أثيرت الشبهات في وجه الإسلام، وقام بعض الناس بتزييف الحقائق لطمس معالم الإسلام
أو لتشويه صورته، فأقول هنا تجب المجادلة لتبيين حقائق الإسلام، وكشف زيف خصومه، ومع ذلك فإن المجادلة والحال هكذا يجب أن تكون بالتي هي أحسن كما أمر ربنا تبارك وتعالى، فليس فيها شيء من السب والشتم، بل ليس فيها إلا إظهار الحق وتبينه للناس، وقد يكون الجدال مستحباً لدعوة غير المسلمين للإسلام، وذلك ببيان ما هم عليه من سوء الديانة وفساد المعتقد، وتحريف ما بين أيديهم من الكتاب إذا كانوا أهل كتاب، مع بيان دين الله تعالى وذلك أيضاً لا يكون إلا بالتي هي أحسن كما أمر ربنا تبارك وتعالى، وأما النوع المباح من الجدال، الذى يشيع بين العامة فقد رغب النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فى تركه، لانه من دواعى الفطرة فيثقل على النفس تركه، وكذلك جاء الترغيب فى تركه من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأنه يعلم أنه صنو الضلال والإنحراف.
فقال صلى الله عليه وسلم "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا" وقدم النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الوقاية على العلاج، واستأصل الداء قبل نشؤه، وحل المشكلة قبل وقوعها، وقد قيل أن عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، قال " من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل " وقال النووى رحمه الله، قال بعضهم " ما رأيت شيئا أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للَّذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة " وقال أيضا الأوزاعي " إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل " وقال أيضا الصمعي " سمعت أعرابياً يقول من لاحى الرجال وماراهم قلَّت كرامته، ومن أكثر من شيء عُرف به"
وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم " المراء رائد الغضب ، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب " وقد جعل النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الجدال
علامة الضلال بعد الهداية، ومؤشر الإنحراف عن الجادة، وذلك لما يترتب عليه من آثار موبقة ونتائج مهلكة، وقد أخبر النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن ذلك الرجل التى لا تهدأ عنده غريزة الجدال، بل تظل ثائرة لأتفه الأمور و يشتد في خصومته، ويجادل حتى يجدل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله، فعن السيده عائشه رضى الله عنها قالت أن النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، قال " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " وقد توعد النبى الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الصنف الذى يصر على الجدال فى الباطل رغم علمه به، فقال صلى الله عليه وسلم: "ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " والجدال يقصد به المحاجة أو المناظرة واستعراض الاراء المدعومة بالحجج والبراهين التى تدعم رأى أحد المتجادلين.
أو تدعم وجهة نظره على نظيره الاخر، وقد جاء ذكره فى القرآن الكريم تارة بلفظ الجدال وأخرى بلفظ التحاج وثالثة بلفظ المراء، والمتأمل لمصدرى التشريع الإسلامى يجد أن النصوص تتعامل معه تارة على أنه مباح ومحبوب وأخرى على أنه مذموم ومكروه، والأصل فى الجدال أنه مذموم لورود أكثر الايات فى ذمه، ويمكن أن نستخلص سمات وشروط الجدال المباح وهى أن يرجى من المجادل عدم العناد واتباع الهوى، بل تبدوا عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل، أما المعاندين المكابرين فجدالهم مذموم محظور، وقد كان أبو قلابة يقول " لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم " وجاء رجل إلى الحسن فقال : يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين"
فقال الحسن " أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه " وكان عمران القصير يقول " إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون " أرأيت أرأيت " ويجب أن يكون الجدال بالتى هى أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم التعالى والغرور، وإلا كان مذموما، لأنه سيؤل الى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة، أن يكون عن علم وبصيرة بموضوع الجدال، وإلا كان ممقوتاً وكان شره مستطيراً أن يكون موضوعه ذو قيمة وأن يبتغى من طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة، كدفع ضرر شديد أو استجلاب خير وفير، وقال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" ويجب أن يبحث فى جوهر الأمور ولا يتطرق الى ثناياها، وأن يكون فى صلب الموضوع ولا يحيد الى النقاط الفرعية كما قال تعالى (إلا مراء ظاهرا).
وهذا هو الحوار البناء الذى يخاطب العقل ويلتمس الإقناع، ويتمثل فى الدعوة الى الله وائتلاف قلوب العباد وترغيبهم فى الخير وفضائلة، وتنفيرهم من الشر وغوائله، والأمر بالمعروف بمعروف، والنهى عن المنكر بلا منكر، والحض على فعل الواجبات واجتناب المنهيات، ويشيع هذا النوع فى الأوساط العلمية، بين العلماء بعضهم البعض، وبين الدعاة وبين أهل الديان الأخرى، ومن سمات هذا النوع أن صاحبه يبحث دائماً عن نقاط الاتفاق ويبنى عليها، ولا يركز على مواطن الخلاف ليقيم عليها، فتتسع الفجوة وتزداد الهوة وينشأ التنافر، بما يفضى فى النهاية الى الكراهية والخصام، وأما عن الجدال المحظور والمذموم وهو الذى يغلب على أصحابه حب النفس واتباع الهوى من أجل إشباع عريزة الحاجة الى الظهور والتميز عن الاخرين، فيغلب عليهم التعصب الاعمى ويسيطر عليهم الغضب.
مما يفضى فى النهاية الى المنازعة والمخاصمة، وربما ادى الى أسواء من ذلك، ويشيع هذا النوع بين عامة الناس وبسطائهم الذين لم يحصّلوا قدرا كافيا من العلم والثقافة، فما أن يطرح أحدهم موضوعاً ما إلا ويسارع المحيطين بإدلاء آرائهم وطرح أفكارهم، وبنفس السرعة يتحول الحضور الى فريقين مؤيد ومعارض، ويسير الجدال فى مثل هذه الظروف فى عدة مراحل من السئ الى الاسوأ، فيحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وأن رأى الطرف الاخر خطأ لا يحتمل الصواب، وان كان فى الجلسة أكثر من اثنين تحول الامر الى فوضى، كما لو كانت سوقاً مملؤا بالصخب والضجيج، حيث يتسابق الجميع الى الكلام ومن ثم تعلوا الاصوات وتتداخل، وإن لاح لأحد الطرفين أن نظيره أقوى حجة منه وأبين دليلا منه، سارع بالنيل من الاخر والتجريح فى شخصه.
والتقليل من شأنه بسخرية واستهزاء، محاولاً صرف الانظار بعيداً عن الموضع حتى يتسنى له الظهور عليه، وأما الطرف المستهان به فلن يرضخ لمثل ذلك، فتراه تارة يدفع عن نفسه وأخرى يهاجم الاخر بمثل صنيعه، وقد دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء ، فقالا : يا أبا بكر، نحدثك بحديث ؟ قال : لا، قال : فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل؟ قال " لا، لتقومن عني أو لأقومنه " وأما عن شروط الجدال المباح فهى إظهار التجرد، والتعقل أثناء الجدال، وتركُ العناد، واتباع الهوى، وجدال الطرف المقابل بالتي هي أحسن، فيكون ذلك بالرفق واللّين، وترك التعالي والغرور، فإن كان ذلك في الجدال كان مذموماً، كونه سيؤدي إلى العديد من المفاسد، والأضرار، وكذلك العلم بموضوع الجدال، والبصيرة فيه، وإن لم يكن ذلك فإن الجدال يكون مذموماً ممقوتا.
وأيضا رجاء الفائدة، والجدوى من الحوار، ومن تلك الفوائد دفعُ الضرر، أو جلب الخير، أو المنفعة، والحرص على أن يكون موضوع النقاش ذا قيمة، والبحث في جوهر الأمور، وترك التشعب في جزئياتها، وثناياها، وعدم الحياد إلى النقاط الفرعية، فأطراف الحوار هنا يبحثون عن نقاط الاتفاق، لا العكس، وينقسم الجدال، إلى أقسام كثيرة فمنها ما هو كفر بالله تعالى، ومنها ما يوجب النار عياذاً بالله تعالى، ومنها ما هو علامة على الضلال، ومنها ما يورث العداوة ويقطع المودة، ومنها ما يولد الكبر في قلب صاحبه، ولقد صرح القرآن الكريم بأن الإنسان بطبعه مجادل برغم وجود الحجج والبراهين الدامغة والآيات الساطعة والأمثلة المتعددة، والدافع من الجدال والمراء هو الكبر في نفوس بعض هؤلاء، وهو كبر يمنعهم من قبول الحق والعمل به .



google-playkhamsatmostaqltradent