recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

صبراً آلامي


بقلم-ريهام حمدي 

اليوم أكملت الثلاثون من عمري ولا أعلم هل هذا هو كل نصيبي من الحزنِ والألم أم لا تزال الأيام تخبىء لي المزيد؟ 

لا أعلم ماذا يجري في مثل هذه المواقف فلم أعهد أبداً حفل عيد ميلاد طوال حياتي , حتى يوم ميلادي وعمري لست أكيداً منه , كل شيء بالتقريب , كل شيء حسب ما تقوله الدار التي نشأت بها .

أعرفكم بنفسي : أنا وليد , كنت ولازلت مجهول النسب لا أب لي ولا سند , لا أعلم لي مكان فقد تركت الدار منذ سنوات وحاولت العمل بأكثر من مكانِ وبلد , كنت أحياناً أشترط وجود إقامة بالعمل حتى أسطيع المبيت , وبالرغم من برودةِ الجدران المحيطة إلا أنها أفضل من لا شيء .

ليس لي أصدقاء على الإطلاق حاولت أكثر من مرةِ اتخاذ صديق لي ولكن دون جدوى , نظرة الجميع لي تقتلني كالسُم يجري في عروقي , لا أعلم ما ذنبي وما فعلت ؟ أقوم بالتكفير عن ذنبِ لم اقترفه طوال ثلاثون عام دون جدوى , دون أن يرحمني أحد , دون أن يسامحني ويغفر لي أحد .

ليس لي في هذه الدنيا الحالكة السواد سوى الشيخ أحمد , هو بمثابة أب لي , التقيته صدفة أثناء صلاتي بإحدى المساجد وقد ضاقت بي الأرض وقتها , لم أشعر بحياتي مثلما شعرت معه حين خاطبته وذرفت دمعاً يحرق مكانه عند مروره على وجنتيّ من اعتصار قلبي , ما لهذه الطيبة وما سحر تلك الكلمات وقتها ؟

كنت أبلغ من العمرِ عشرون عاماً حين التقيت به , وقد أبلغني أنه يعيش وحيداً لا زوجة له ولا أولاد , فقد ماتت زوجته على إثر مرض خبيث ولم يُكتب له أن يرى في هذه الدنيا قطعة منه تنبض , كان حامداً شاكراً بالرغم من ظروفه .

خجل سخطي أمام رضاه , ورضخ قلبي لفيض مشاعره , وخَفَضت له مشاعر العطف كأنه أبُ لي لما شعرت منه من حنان افتقدته منذ ولادتي .

مكثت في بيته فترة حتى بدأت في تعليم مهنة كي أعتمد على ذاتي , فكنت التحق بالعمل وانتظر بفارغ الصبر أيام العطلة حتى أذهب واطمئن عليه واقضي معه أيام جميلة .

وتمر السنوات وهو لا يكلُّ ولا يملُّ مني أبداً , تتغير الأعمال وتتغير الأماكن وأغيب عنه ثم أعود لألقاه يستقبلني استقبال الوالد لابنه الغائب .

رباه ماذا كنت لأفعل دون قلب الشيخ أحمد؟ والآن أنا وحيد بيوم مولدي , ليس لي رصيد اجازات . لابد أن انتظر أسبوعاً جديداً لأسافر وأقابله.

حزينة هي أيامي , أشعر أن لا مستقبل لدي , سأنظر اليوم في سمائي وأرسل رسالة لا يعلمها سوى الله . 

رسالة لأمي وأبي : مُحملة بكل ما في قلبي من غضبِ وحزن وأسى , مُحملة بكل نظرة شفقة أو احتقار أو خوف مني رأيتها بعينِ أحد ما قابلته , مُحملة بكل ما كان من الممكن أن أراه من الحبِ منكم , مُحملة بكل حضن حُرمت منه على مدار سنوات عمري.

" بالرغم من كل شيء فأنا أغفر لكم ما كان ."

كعادة يوم مولدي انقضى في صمتِ وهدوء سأغمض عيني على عبثِ من دنياي لأفتحها ربما على فجر يومِ جديد في عامِ جديد.

مرّ الأسبوع وها أنا أقوم بالعدو السريع بقلبي قبل قدماي , أسابق الريح وأقهر وسائل المواصلات البطيئة , لابد لي من السفر من مدينةِ الأسكندرية حيث عملي , للقاهرة حيث يقيم الشيخ أحمد , 

أمامي من الوقت حسب التقدير أربع ساعات , سأصل عند الظهر أو بعده بقليل , حاولت الاتصال عليه دون جدوى فقررت أن تكون المفاجأة من نصيبه .

وأخيراً وصلت لحي عابدين حيث يقيم الشيخ , قررت التوجه للمسجد الذي يُصلي فيه لأسمع صوته العذب وأصلي الظهر , دخلت متأخراً ولكني أدركت الصلاة بعد الركعة الأولي , استغربت كثيراً حيث اختلاف صوت الإمام , لم يكن بالتأكيد صوت شيخي الجليل , أكملت الصلاة وقبل أن أقوم من مكاني سمعت الإمام ينادي لصلاة الجنازة , كان يقول لي شيخي عن عظيم ثوابها , لذلك قررت أن أقف بجوار المصلين لأصلي معهم , المسجد ممتلىء بالتأكيد هم أقارب المتوفى.

- الله أكبر , اليوم سنقوم بالصلاةِ على شيخنا الجليل الشيخ أحمد رحمة الله عليه طالما كان هذا منبره واليوم نصلي عليه فيه فلتخلصوا الدعاء , الله أكبر .

رفع الجميع أياديهم عدا يدي فقد تمردت , كما تمردت جميع أوصال جسدي في الاستجابة , لم تستجيب لي سوى عيني فقد انهمرت بدموعِ لا نهاية لها . 

ما أن فرغ الإمام من الصلاة حتى تقدمتُ أنا لأقف أمام أبي وشيخي وقررت تقديم نفسي على أني ولده , حملت جثمانه وواريته تحت التراب بيدي وسط ذهول وخفقان في قلبي إثر صدمتي فيه.

في المساء ذهبت لمنزله لم يكن به أحد , على ما يبدو أن الشيخ أحمد كان وحيداً مثلي في هذه الدنيا , 

في الصباح وقبل رحيلي قررت ترك رسالة له:

كنت سأجزع ولكن كلماتك أمهلتني كنت سأنهار ولكن صبرك قيدني , كنت سأسلمُ رايتي ولكن زرعك علمني الصمود والصبر.

google-playkhamsatmostaqltradent