recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إصلاحات سوق المال المصرية بين التطوير والمطلوب في ظل الاقتصادات الرقمية

 

إصلاحات سوق المال المصرية بين التطوير والمطلوب في ظل الاقتصادات الرقمية

 د. نادر خضر

منذ بداية أزمة فيروس "كوفيد- 19" في نهاية 2019، لم يكن خفي على أحد أن العالم الذي كنا نحياه قبلها لن يشبه شيئا لعالم ما بعد نهاية الأزمة المستمرة حتى الآن، ومن المتوقع أن تستمر فترة لن تقل عن عام آخر، وهذا ما مثل العديد من التحديات والفرص في مجالات الأعمال والاستثمار للتوافق مع العام الجديد ومعطياته.

وقد بدأت ملامح العالم الجديد تتضح جلية خلال عام 2020، بطرح العديد من الأدوات التكنولوجية الجديدة للتواصل والتعليم والنقل والتجارة وغيرها من الأنشطة الاقتصادية التي تمس الحياة اليومية للمواطن العادي على كل المستويات، وليس من المبالغة القول بأن هذه التطورات والأدوات كانت قد بدأت في الظهور منذ النصف الثاني من العقد المنصرم من القرن الجديد، إلا أن الأزمة قد ساهمت في الإسراع في تطورها بشكل كبير.

وهذا ما كان داعم وداعيا في نفس الوقت إلى طرح الكثير من التشريعات الاقتصادية والمالية، ولعل أبرز هذه التشريعات قانون البنك المركزي الجديد الصادر في سبتمبر من العام الماضي وقانون التمويل الاستهلاكي وكذلك تعديلات قوانين سوق المال المصرية، والتي تضمنت جميعها فصولا عن الأدوات المالية والنقدية الرقمية، كالباب الرابع من قانون البنك المركزي الذي ركز على وسائل الدفع الإلكترونية.

وبالنسبة لسوق المال والبورصة المصرية، نجد أن طرح شركة النقل التشاركي SWVL  كان أكبر تنبيه لأن القواعد والإجرائات بسوق المال المصرية تحتاج إلى ثورة تطوير، فأغلب الشركات التي تعمل في مثل هذه الابتكارات أصبحت لا تعتمد على أصول تقليدية ملموسة، مما يجعل أمامها عوائق عديدة في قواعد القيد والشطب واستمرار القيد، وكذلك معايير المحاسبة المصرية التي  وإن كانت به معايير للتنظيم المحاسبي للأصول غير الملموسة إلا أن منظور الاعتبار لها لا يزال يحتاج للتطور كثيرا لتحتوي التطور الذي حدث في شتي النواحي الاقتصادية.

فلقد كانت الملاءة المالية للشركات تحتسب على أسس للنقد والأرصدة الموجودة لتعاملات فعلية ملموسة، وهو ما أصبح لا يمثل لهذه النوعية الجديدة من الشركات شيئا في تعاملاتها الرقمية مع عملائها.

و بناء على ذلك، نجد أن هذه الشركات التي أصبحت تمثل جزءا ليس بالبسيط في التعاملات التجارية اليومية لأي منا، أمامها تحدٍ واضح للتوافق مع هذه المطلبات للقيد، سواء على مستويات القانون أو على مستوى قواعد القيد والشطب واستمرار القيد؛ مما دفع شركة كشركة SWVL  للانتقال إلى دبي ومنها إلى بورصة ناسدك.

وبمراجعة التطور الذي مرت به البورصة المصرية أو سوق التمويل للشركات بشقيه (رأس المال والدين)، نجد أننا لا نزال نتعامل على منتجين فقط من أدوات التمويل، وهما الأسهم والسندات للشركات القائمة والعاملة لأكثر من فترتين ماليتين وقد حققتا أرباحا في قوائم دخلاهما بما لا يقل عن 5% من إيرداتهما من نشاطهما الرئيسي، وهو ما يمثل أمرا شبه مستحيل لهذه الشركات التي أصبحت تتعامل بأدوات مالية جديدة كاتفاقيات الأسهم المستقبلية البسيطة واتفاقيات التقييم. 

فلقد كانت البورصة المصرية مقيدا بها في بداية عام 2013 حوالي 213 شركة أو أكثر، وأصبحت اليوم مقيدا بها 216 شركة فقط من واقع بيانات موقع البورصة المصرية، وبالنسبة لسوق المشروعات الصغيرة والمتوسطة (شركات النيل - شركات تميز)، فقد زادت الشركات المقيدة بها من 22 شركة تقريبا في 2013 إلى 27 شركة حاليا.

وقد واجه السوقان تحديات نتيجة الاضطرابات المتتالية التي واجهتها الشركات خلال فترة العقد ونصف الماضية (منذ الأزمة المالية العالمية في 2008)؛ مما أودى بالعديد من الشركات التي فضلت الشطب من البورصة المصرية على استمرار القيد، مع عدم القدرة على التوافق مع المعايير والمتطلبات التي ظلت ثابتة دون مرونة مناسبة أو حراك يحافظ على عمق السوق.

وقد كان أهم التطورات التي ساهمت في خلق حافز طرد لكل من المستثمر وطالب التمويل في سوق المال المصرية هو فرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية في منتصف عام 2013، سواء على محافظ الاستثمار للأفراد أو على وثائق صناديق الاستثمار؛ الأمر الذي جعل المتعاملين في بورصة الأورق المالية يفضلون الاحتفاظ بالسيولة في الحسابات البنكية والأوعية الادخارية المعفاة من الضرائب والمضمونة ضد المخاطر، على أن يضعوها في وثائق استثمار لا تتناسب عوائدها مع المخاطر الاستثمارية التي تصاحب الاستثمار في الأسهم والبورصة.

ونظرا للمجابهة الشديدة التي حدثت في ذلك الوقت من المضاربين والوسطاء، بالإضافة إلى الوضع الدقيق الذي كانت تمر به البورصة المصرية نتيجة تداعيات أحداث يناير 2011، تم تأجيل التطبيق على المحافظ الاستثمارية في الأوراق المالية عاما تلو الآخر، ولكن تم التطبيق على وثائق صناديق الاستثمار منذ اليوم الأول للقرار في مايو 2013، مما جعل معادلة التكلفة والعائد للأوعية الاستثمارية بهذ الصناديق مضغوطة في هوامش ربحيتها بصورة كبيرة لا تمثل المستويات التي قد تجذب الفئات المستهدفة بمثل هذه الأوعية الاستثمارية. 

ومن العوامل التي ساهمت في تفاقم هذا الوضع بالنسبة لموضوع ضرائب الأرباح الرأسمالية كانت السياسة النقدية التي اتبعها البنك المركزي، من رفع معدلات الفائدة والتأثيرات السلبية للسوق السوداء للعملة الصعبة نظرا للإجراءات التي كانت متخذة في هذا الوقت؛ مما ساهم أكثر في ضغوط تنفيرية للأوعية الاستثمارية كصناديق الاستثمار في الأسهم.

الأمر الذي نراه يعود تدريجيا بعد الإعلان عن بدأ تطبيق ضريبة الأرباح الرأسمالية على المحافظ الاستثمارية في البورصة المصرية بداية من 1 يناير 2022، استنادا إلى أن البورصة المصرية قد عوضت خسائرها على مؤشرها الرئيسي فقط خلال فترة السبعة أشهر.

وحيث إن الضرائب في مصر لا تفرض إلا بتشريع، فبالنظر في التشريعات المنظمة لهذه الأسواق التي تقع تحت مظلة أسواق التمويل، نجد أن العديد منها كان يحتاج إلى إعادة النظر بصورة متعمقة لإضافة العديد من الأدوات التمويلية الجديدة التي ظهرت خلال نفس الفترة التي نتحدث عنها، إضافة إلى معالجة التعارض الذي ظهر في بعضها مثل إجراءات ومتطلبات الحوكمة (على سبيل المثال الحضور عبر تقنيات الفيديو كونفرس للاجتماعات) أو فترات الإخطار بالأحداث الجوهرية التي تنص عليها المادة 38 في قواعد القيد والشطب؛ والتي تحتم عدم التداول على المطلعين على معلومات داخلية عنها لفترات محددة، مع عدم وجود أي قيود في القانون بخصوص ذلك.

 ورجوعا لواقع البورصة وسوق التمويل المصرية، نجد أن المتعاملين في سوق رأس المال يتعاملون على منتج وحيد وهو الأسهم، وفي سوق السندات نتعامل على سندات الشركات ولا يتعامل عليها إلا المتعاملون الرئيسيون والبنوك، ولا تزال صكوك التوريق والسندات الحكومية وصكوك تمويل المشروعات غير موجودة على شاشات التداول، الأمر الذي أصبح يمثل تحجيام للاستثمار الراغب في الدخول إلى مصر؛ مما يخلق له قنوات أخرى قانونية ولكن بعيدا عن شاشات التداول.

ومن هنا، تظهر  بوضوح أهمية التفكير في تطوير سوق التمويل بمصر من خلال ثلاثة محاور رئيسية، وهي: 

إعادة النظر في المنظومة التشريعية وفض التشابكات فيما بينها لتسهيل الإجراءات وعدم خلق عوائق أو تعارضات مع قوانين أخرى كقوانين الجهاز المصرفي، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع كافة المحازير الخاصة بالتحوط ضد غسل الأموال وعدم تمويل أصول وهمية أو عمليات حرق أموال (كالحال مع شركات لا تزال تطور منتجات لم ترَ النور) 

إعادة النظر في إضافة أدوات تمويلية جديدة كوثائق صناديق التمويل التشاركي وصناديق رأس المال المخاطر والصكوك الفوقية وحصص الاتفاقات التمويلة المستقبلية، والتي تعتمد في أساسها على تقييمات للأداء المستقبلي، والتي -من وجهة نظري- سوف تكون تحديا حقيقيا لصياغتها بصورة متوافقة مع الاحتياجات الجديدة المطروحة من الشركات ذات التقنية العالية في تنفيذ الخدمات (مثل شركة أوبر و SWVL) 

طرح مجموعة من الإجراءات التحفيزية التي تساعد الشركات الراغبة في قيد أدواتها التمويلية على النمو والتطور من سوق إلى سوق (مثل شركة دايس والتطور الذي حدث بانتقالها من سوق المشروعات الصغيرة والمتوسطة إلى البورصة المصرية في أواخر عام 2018)، وأيضا طرح مجموعة من المزايا التحفيزية للمتعاملين والمتداولين من خلال تشجيع الاستثمار والاحتفاظ بالأوراق المالية على المضاربة، مثل تشريع الضرائب الرأسمالية بناء على معايير منها معدل دوران رأس المال وحجم المحفظة المستثمرة في الأسهم، بالإضافة إلى تشجيع التوجه إلى الأوعية الاستثمارية المدارة بواسطة محترفين لتعظيم العوائد وتقليل مخاطر الخسائر لصغار المستثمرين والمتعاملين.  

ومن النقاط المهمة المطلوب أخذها في الاعتبار لتطوير وإصلاح سوق التمويل في مصر –أيضا- البرامج المدعمة للشركات لاستكمال الإجراءات الخاصة بالتوافق مع معايير القيد والحوكمة والتقييم، حيث إن هناك العديد من الشركات التي تريد وتبحث حاليا القيد بالبورصة المصرية أو بسوق السندات إلا أن عدم وجود جهة منسقة غير ذات مصلحة يجعلها تتراجع في اللحظات الأخيرة قبل اتخاذ القرار.

كما نجد أن ملفا من أهم الملفات التي يتطلب وبإلحاح النظر فيه، هو سيطرة الوسطاء ومدى هيمنتهم على العملية الخاصة بدخول سوق التداول برمتها، الأمر الذي يجعل الشركات الراغبة في الدخول لسوق التمويل فريسة لهذه الفئة من المتعاملين في سوق التمويل، فلا بد من تفعيل أكبر لدور المستشارين الماليين المستقلين (الذين أغلبهم شركات منبثقة من شركات وساطة أو شركات شقيقة لشركات وساطة).

و في النهاية، نجد أن الاقتصاد المصري، والذي يعتبر الاقتصاد الوحيد بالمنطقة في شمال إفريقيا الذي كان من المتوقع له تسجيل معدلات نمو إيجابية عالية خلال عام 2020/2021، هو الأكثر جاذبية للاستثمار والأعلى في تحقيق العوائد على الاستثمار، لا يزال يعاني سوق التمويل فيه من العديد من العوائق، سواء التشريعية أو التنظيمية؛ نظرا لقلة المنتجات المطروحة بهذه السوق (فقط الأسهم والسندات)، كما أنه ليست به تشريعات تدعم الأدوات المالية الخاصة بالاقتصاد الإسلامي عدا قانون الصكوك السيادية الصادر مؤخرا خلال عام 2021، مما يؤكد على أهمية إعادة النظر في مجموعة القوانين المنظمة له والرقابية عليه؛ فالقطاع الوحيد الذي لم تُعَد صياغة قوانينه المنظمة لهيئاته ومؤسساته منذ دستور 2014 وتعديلاته في 2019 هو قطاع سوق المال.

google-playkhamsatmostaqltradent