recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

العلاقات المصرية العراقية: علاقات ثنائية على الطريق لإعادة بناء المشرق


العلاقات المصرية العراقية: علاقات ثنائية على الطريق لإعادة بناء المشرق

 د. جمال عبد الجواد

في شهر يونيو 2021 قام الرئيس "عبد الفتاح السيسي" بزيارة بغداد، فكانت هذه أول زيارة لرئيس مصري للعراق منذ مشاركة الرئيس الأسبق "حسني مبارك" في القمة العربية التي انعقدت قبل أكثر من ثلاثين عامًا في بغداد، في مايو عام 1990. خلال العقود الثلاثة الفاصلة بين الزيارتين جرت مياه كثيرة تحت جسور الشرق الأوسط، فقد وقعت حروب، وتم احتلال بلاد، وسقطت أنظمة حكم، وقامت أخرى، وتغيرت الخرائط فعليًا؛ وإن بقيت رسميًّا على حالها، وتحولت حروب الدول إلى صراعات أهلية، وفتحت الصراعات الأهلية الباب للتدخلات الخارجية، وانضم عدد من الدول العربية لقائمة الدول الفاشلة، وتغيرت موازين القوى الاستراتيجية في المنطقة، وفقد العالم العربي استقلاله النسبي ضمن الشرق الأوسط، وأصبحت المنطقة إقليمًا شرق أوسطي كبيرًا، تتداخل فيه تفاعلات العرب مع غيرهم، بل وأصبح للقوى غير العربية السبق واليد العليا في المنطقة. 

ما حدث في المنطقة خلال الثلاثين عامًا الماضية له أسباب عديدة معقدة، ولن يكون من السهل معالجة مشكلات المنطقة، والتغلب على ما يواجهها من مخاطر. لكن المؤكد هو أن التطور الحادث في العلاقات المصرية العراقية يمثِّل أحد محاور التحرك الأساسية الهادفة لمعالجة مشكلات المنطقة. 

دولة مركزية عند أطراف العالم العربي

للعراق أهمية خاصة في المنطقة؛ تاريخيًّا كان العراق، مع دمشق والقاهرة، مركزًا رئيسًا للثقافة والحضارة العربية الإسلامية، وللعراق مركزيته وخصوصيته في الإقليم، والتي يستمدها من كونه حاضرة للثقافة العربية، تقع على تخوم عالم الثقافة العربية، وعند الأطراف التي تتفاعل عندها القوة والثقافة العربية مع قوى وثقافات شرق أوسطية أخرى؛ خاصة القوى والثقافات الفارسية والتركية. 

وبسبب وقوعه عند التخوم بين الحضارات والإثنيات الرئيسة في الشرق الأوسط، قام العراق بعدة أدوار في التاريخ العربي الطويل، ففي فترات الصعود كان العراق هو المنصة وقاعدة الانطلاق التي انطلق منها العرب للوصول إلى العوالم غير العربية في غرب ووسط آسيا، وفي فترات الهبوط كان العراق هو الحصن المتقدم المدافع عن الحضارة العربية، وطوال الوقت كان العراق هو ساحة التفاعل والحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة المكوِّنة للمنطقة، وكان أيضًا ساحة للصراع بين القوى المتصارعة من أجل الهيمنة في الإقليم. 

إن الدول تصنع مستقبلها عبر الإدارة الفعالة الذكية لحقائق التاريخ والجغرافيا، لكنها لا تختار جيرانها أو تاريخها، وتتمثَّل مشكلة العراق الأساسية في العقود السابقة في إخفاق قيادته في إدراك خصوصية الوضع العراقي، وطبيعة موازين القوى التي يقع العراق في قلبها، وتجاهل الحقائق الثقافية والاستراتيجية المحيطة به، فتصرفت كما لو كان بالإمكان تحدي التاريخ والجغرافيا، أو إعادة صنعهما، فأضعفت العراق، وأوقعته فريسة يتجاذبها الفرقاء. 

أربعة عقود عصيبة

مرَّ العراق بعقود عصيبة، فهذا البلد لم يهنأ بفترة سلام منذ أربعين عامًا على الأقل، خاصة منذ الثورة الإيرانية عام 1979، فقد بدأت الثورة الفتية عهدها بالتصويب على العراق، كهدف تالٍ للثورة الإسلامية، ومثَّلت الثورة الإيرانية تحديًّا مزدوجًا للعراق، مرة بسبب إيديولوجيتها الإسلامية الرافضة للإيديولوجيا العروبية الحاكمة في العراق، ومرة بسبب طابعها المذهبي الذي وصلت أصداؤه إلى العراق، فأحدثت شروخًا وتصدعات في بنيان العلاقات المذهبية شديد الرهافة والحساسية.

وتصدى العراق للتحرشات الثورية القادمة من إيران، لكنه ذهب إلى مدى أبعد مما ينبغي عندما بدأ الحرب عليها في خريف عام 1980. كان على العراق أن يرد على الثورة الإيرانية بتعزيز تماسكه الداخلي، وتدعيم نموذجه الحضاري والسياسي والتنموي، بدلًا من الذهاب للحرب، واستمرت الحرب مع إيران ثماني سنوات، انتهت بإحباط الأحلام التوسعية للنظام الثوري في طهران، بما أتاح فرصة ذهبية لتثبيت وتعزيز الوضع القائم، وتحصينه ضد قوى عدم الاستقرار؛ لكن القراءة الخاطئة لنتيجة حرب الثماني سنوات، وللتطورات الدولية التي صاحبت انتهاء الحرب الباردة، أدخلت العراق في حرب جديدة، بدأت عندما قرر الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" غزو الكويت، فاستفز المجتمع الدولي كله ضده، وقادت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًّا مضادًا للعراق، وانتهت الحرب بتحرير الكويت، ووضع العراق تحت حصار خانق، تفرضه وتتأكد من إحكامه القوة المسلحة الأمريكية. 

استمر الحصار مفروضًا على العراق لأكثر من عشر سنوات، انتهت بقيام الولايات المتحدة باحتلال العراق، فدخل البلد مرحلة جديدة من الاضطراب الأمني والسياسي والصراعات المذهبية والتدخلات الإقليمية، ووصل الوضع السياسي في العراق إلى أكثر نقاطه انخفاضًا في أعقاب نجاح تنظيم داعش، في عام 2014، في الاستيلاء على مساحات كبيرة، خاصة في المناطق السنية غرب البلاد. لقد تمّت هزيمة داعش، لكن التكلفة السياسية لهذه الحرب كانت ثقيلة جدًا؛ فقد كشفت الانتصارات التي حققها داعش بسرعة أثناء فترة صعوده عن مدى الضعف والهشاشة الذي يعانيه الوضع السياسي في العراق، بما أخل بالتوازن الضروري بين الحكومة المركزية والمكونات الاجتماعية والسياسية العراقية. 

في هذه الظروف كان من الضروري معالجة ملفات شديدة الحساسية والخطورة، أهمها إعادة دمج المجتمعات السنية في غرب العراق ضمن النظام السياسي والنسيج الاجتماعي، وتفكيك الميليشيات الشيعية التي تشكّلت للإسهام في الحرب ضد داعش، وإعادة صياغة العلاقة مع الكرد بعد أن حصلت النوازع الاستقلالية لدى بعض أحزابهم الرئيسة على قوة دفع كبيرة؛ بسبب الدور الذي لعبوه في هزيمة داعش، وكلها مهام شديدة الصعوبة تحتاج للكثير من التوافق والإرادة السياسية، والدعم الإقليمي والدولي.  

توجهات جديدة في العراق

يكافح العراق للخروج من العقود الأربعة العجاف، وبينما توجد تيارات وقوى مستفيدة من بقاء الأوضاع المتأزمة على حالها، توجد هناك قوى إصلاحية تعمل على دفع الأمور إلى الأمام، وقد منحت الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر 2019 زخمًا لقوى الإصلاح، ففتحت ثغرة في جدار الاستغلاق السياسي، وتم اختيار السيد "مصطفى الكاظمي"، السياسي المستقل القادم من خارج التشكيلات الحزبية المتصارعة، لشغل منصب رئيس الوزراء. 

يسعى العراق في المرحلة الحالية لتحقيق التوزان داخليًّا بين القوى السياسية العراقية المتنافسة، وخارجيَّا بين الدول المؤثرة في الوضع العراقي، ويستهدف رئيس الوزراء "الكاظمي" تجنيب بلاده مخاطر التحول إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الخصوم، خاصة بين إيران والولايات المتحدة، وتعزيز الدولة العراقية من ناحية، وإكساب العراق مساحات أوسع للحركة الخارجية من ناحية أخرى، وفي هذا السياق تبرز أهمية تطوير العلاقات المصرية العراقية.

مـصـــــــر في الشـــــرق الأوســـــط: تحركات نشطة وتوجهات معتدلة

تتبع مصر سياسة خارجية نشطة في أسلوبها وإيقاع أدائها، فيما تحافظ على محتوى وتوجهات معتدلة، وتقوم السياسة الخارجية المصرية في الإقليم على عدد من المبادئ التي أكسبتها احترام وثقة أغلب الأطراف.

أولوية الدولة الوطنية

تنطلق السياسة الخارجية المصرية في المنطقة من اعتقاد راسخ بأن الأزمة الراهنة في العالم العربي هي في جوهرها أزمة الدولة العربية؛ فإخفاق الدولة العربية داخليًّا أطلق موجات من عدم الاستقرار العابر للحدود، وكل مساحة عجزت الدولة عن شغلها، تحولت إلى منطقة نفوذ وقاعدة انطلاق لقوى متطرفة معادية للدولة، ولعل في نجاح تنظيم داعش في السيطرة على مساحات هائلة في سوريا والعراق بعد أن تعرضت مؤسسات الدولة في البلدين لإنهاك شديد، دليل على ذلك. وبينما تنظر دول في الإقليم لضعف الدولة العربية كفرصة لتوسيع نفوذها، ترى مصر أن هذه السياسة الانتهازية تمثِّل وصفة لعدم الاستقرار، وأنه لا بد من تعزيز الدولة الوطنية العربية، واحترام سيادتها داخل حدود إقليمها؛ لأن ذلك هو الطريق الأنسب لاستعادة الاستقرار والرفاهية للمنطقة كلها.

إتاحة البدائل وتوسيع نطاق الحركة

تحرص مصر على إقامة شبكة واسعة من علاقات التعاون والشراكات، بما يسمح بإتاحة المزيد من الفرص، وتقليل القيود، وإتاحة أكبر قدر من الاستقلال للدولة، وتتجنب السياسة الخارجية المصرية بناء تكتلات وتحالفات جامدة، وتبني، بدلًا من ذلك، شبكات من العلاقات المتقاطعة، مع دول قد لا تتطابق في رؤاها، لكنها قادرة على التعاون فيما يجمعها من مصالح ومواقف. 

تحرص مصر في تحركها الإقليمي على عدم استبعاد أي طرف، وهي بينما توسع نطاق تحركاتها، فإنها ترسل رسائل عملية للأطراف المعنية بأنها لا تستبعد أحدًا، بينما ترفض محاولات الهيمنة والاستتباع التي يحاول البعض فرضها. 

مصالح مصرية عراقية مشتركة

العراق ومصر دولتان شبيهتان من عدة أوجه، فكلاهما كثيفة السكان، ذات اقتصاد متنوع، مرت بخبرات سياسية متشابهة، بما يؤهلهما للعمل معًا. صحيح أن العراق هو من المنتجين الرئيسين للنفط، إلا أن عدد السكان الكبير في العراق لا يجعل للنفط نفس الأثر الاقتصادي والاجتماعي الذي يترتب عليه في الدول النفطية محدودة السكان. كل هذه العوامل تؤهل مصر والعراق للدخول في علاقة تعاون وثيق، يزيد من فرص نجاحها التكافؤ النسبي بين البلدين، وهو أمر له أهميته في منطقة فيها الكثير من محاولات التوسع والاستتباع والهيمنة.

لدى العراق وفرة نفطية ومالية، بينما في مصر اقتصاد كبير ينمو بسرعة، لديه احتياجات متزايدة من الطاقة، ولديه أيضًا مصافي ومعامل تكرير ومصانع بتروكيماويات، ويعد نفسه ليصبح مركزًا إقليميًّا للطاقة بالمعنى الواسع والشامل للمصطلح. ولدى مصر أيضًا قدرات وخبرات واسعة في مجالات التعمير وتأسيس البنية التحتية وإدارتها، فقد نجحت مصر في غضون سنوات قليلة أن تتحول إلى بيت خبرة ذي جودة عالية في مجالات التعمير والبنية التحتية، ويمكن للعراق أن يستفيد كثيرًا من هذه الخبرة. 

من المشرق المنكوب إلى المشرق الجديد

أزمة الصراعات الأهلية وتفكك الدولة الوطنية وصعود الإرهاب في الشرق الأوسط هي بالأساس أزمة المشرق العربي، وبقدر ما تتم إعادة بناء المشرق العربي، بقدر ما سيكون ممكنًا إخراج العالم العربي من أزمته الراهنة، والعلاقات المصرية العراقية هي جزء رئيس في مشروع أوسع نطاقًا، يستهدف إعادة بناء المشرق العربي، أو ما أطلق عليه البعض مشروع إنشاء المشرق الجديد. 

وتشهد العلاقات المصرية العراقية تطورًا ثنائيًّا، كما تتطور ثلاثيًّا أيضًا، في إطار العلاقة بين مصر والعراق والأردن، فالأردن هو بلد رئيس نجا بنفسه من اضطرابات العقدين الماضيين، ولا بد من بذل كل جهد يضمن سلامته في مواجهة عواصف المنطقة. ووقوع الأردن في المنتصف بين العراق ومصر يجعل منه الممر والمسار الطبيعي لحركة التبادل التجاري والنقل في المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن الأردن هو المسار الطبيعي لصادرات الغاز المصري المتجهة إلى لبنان عبر سوريا، تنفيذًا للاتفاق الذي تم توقيعه مؤخرًا لاستخدم الغاز المصري لتشغيل محطات توليد الطاقة في لبنان.

وختامًا، فإن مساعدة لبنان وسوريا على تجاوز أزماتهما هو جزء من عملية بناء المشرق الجديد، وربما يأتي يوم يتسع فيه نطاق التعاون الثلاثي بين القاهرة وعمان وبغداد، ليشمل أيضًا دمشق وبيروت، ليكتمل عقد مشرق جديد، ليس في خصومة مع أحد، ويتسع لجميع أبنائه، بكل مذاهبهم ودياناتهم وعرقياتهم. 

google-playkhamsatmostaqltradent