ماذا تعرف عن الملك صدقيا بن يوشيا (الجزء الثانى)
بقلم - محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء الثانى مع الملك صدقيا بن يوشيا وقد توقفنا عندما قيل إن إرميا فعل الشئ نفسه وهو يراها تذهب إلى ضياعها الرهيب، ولم تسقط أورشليم وتبقى مدوسة حتى اليوم إلا بسبب الخطية ورفضها السيد الذى بكاها، وهو يقول مع ذلك لها، هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا، ويقسم التاريخ العبري إلى ثلاث فترات كل منها أربعة عشر جيلا وفي ذلك تورية لمجموع أرقام حروف كلمة داود، ومن المرجح، في كلا سلسلتي الأنساب، وجود عدد أكبر من المذكورين، فرغم أن اليهود قد أبدوا اهتماما خاصا في تدوين سلاسل النسب إلا أنه من العادة أن تضغط هذه السلاسل التاريخية بمعنى أنها لا تدرج كل جيل من الأجداد محدودا باسمه، خصوصا في حال لم يأت بمآثر في حياته، أي أن كلمة ولد، أو أنجب، يمكن أن تعني أن من أنجبه كان أحد أحفاده وليس بالضرورة ابنه مباشرة، وهذا ما يتضح بشكل حاسم من العددين الحادى عشر.
والثانى عشر، وقد ارتبطت في التقاليد المسيحية بعض الكنائس المسيحية الشرقية في السياسية، فمثلا حصلت كل من سلالة السليمانيون في إثيوبيا وأسرة بجرتيوني في جورجيا على الشرعية من كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية والكنيسة الجورجية الرسولية الأرثوذكسية، باعتبارهم من سلالة الملك داود وسليمان عليهم السلام، فأرتبطت الكنيسة والدولة ارتباطا وثيقا في كل من إثيوبيا وجورجيا، وتشير قصة يعقوب وسليمان عليهم السلام، في القرن العاشر قبل الميلاد إلى أصول مملكة يهوذا، ولا يوجد أي أدلة أثرية تؤكد وجود مملكة يهوذا القوية والواسعة قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، ويعتبر لوح نمرود المؤرخ هو أقدم سجل معروف يظهر فيه اسم مملكة يهوذا وهو مكتوب بالكتابة المسمارية الأشورية، ولم تكن المملكة حينها أكثر من كيان قَبلى صغير يقتصر على مدينة القدس ومحيطها القريب، وكان الملك صدقيا بن يوشيا.
واسم أمه حميطل بنت إرميا، وكان اسمه فى الأصل متنيا، وغير الملك نبوخذ نصر اسمه، وجعله ملكا مكان ابن أخيه، وأطلق عليه ، أو بالحرى، دعاه ليطلق على نفسه اسما آخر، ويبدو أن متنيا وقد قطع عهدا مع الملك نبوخذ نصر بالخضوع والوفاء له، وحلف وبذلك اختار اسم صدقيا الذى يعنى بر الله، مما يحمل معه التصور، أنه قصد أن يشهد الله الصادق على الوفاء للملك الذى عامله معاملة طيبة وحسنة، على أن الضربة القاتلة لهذا الملك، كانت ترجع إلى تردده وعدم ثباته، وضعفه فى مواجهة العواصف والزوابع التى كانت تحيط به، ويصح أن نطلق عليه الملك المهزوز الذى يتجه كيفما تدفعه الرياح، فهو أدنى فى حياته إلى القصبة التى تهزها الريح لتميل فى الاتجاه الذي تدفعه إليها، وكانت المأساة الكبرى فى حياته أن نبوخذ نصر عندما إجتاح أرض يهوذا أيام يهوياكين، لم يحمل معه خيرات الأمة فحسب، بل أخذ أفضل الناس وأشرفهم فيها.
وتركها بدون مال أو رجال يعتمد عليهم، وأحاط بصدقيا مجموعة من الحمقى الذين لا يعرفون كيف يزنون الأمور، ويتصرفون بدون خبرة أو فهم، وكانوا يحركون الملك كما يشاءون وقد كانت هناك فرصة عظيمة أمام الرجل إذ كان إلى جواره فى المدينة رجل الله النبى إرميا، وكان صدقيا يؤمن بنبوة إرميا وقد دعاه مرات كثيرة ليتحدث إليه ويسمع منه كلمة الرب لكنه مع ذلك، لم ينتفع كثيرا بالكلمة رغم وضوحها، لأنه كان يخاف الرؤساء المحيطين به، ولا يجسر على مخالفتهم، وهو يسجن إرميا تحت ضغطهم مع يقينه بصدق الرجل، وأمانته، وفى الوقت عينه إذ يدفعون به إلى الجب، ويتعرض النبى للموت فيه، يرسل عبد ملك ومعه ثلاثون رجلا لإنقاذه، وإطعامه، فى دار السجن، لم يكن صدقيا يشك فى وطنية إرميا وفى صدق نبوته.
وكان يتمنى فى قرارة نفسه أن يستمع إلى نصيحته، رغم شدتها وقسوتها، ولكنه كان من النوع الذي واجه المشكلة بتأجيلها أو تجاهلها حتى يستفحل أمرها ويستحيل علاجها، ولعل أدق وصف يمكن وصفه به، هو قول النبى يعقوب عليه السلام" رجل ذو رأيين هو متقلقل فى جميع طرقه " فإذا كان التقلقل فى حد ذاته أمرا معيبا بالنسبة لأى رجل لا يثبت على حال، فإنه أشد ضررا وخطورة فى أوقات الأزمات والصعاب، إذ توجد لحظات فى الحياة يتحول معها التردد إلى الكارثة التى لا يجدى معها أدنى أمل أو رجاء، وقد كانت الأيام التى عاشها الملك صدقيا أيام الغروب بالنسبة لبلاده وأمته، وقد توزعت الأفكار عن أفضل الطرق، وهل تكون بالتعاون مع بابل، أم بالتمرد عليها والتحالف مع مصر وغيرها من الأمم التى تريد الوقوف فى وجه نبوخذ نصر، وفى أعماق الظلام، وقد سأل صدقيا النبى إرميا عن رسالة الله تعالى.
ولكن صدقيا لم يقبل الجواب وكان وضع القدس في القرن العاشر قبل الميلاد موضوع نقاش رئيسي، حيث تشكل مدينة داود أقدم مدينة في القدس والجوهر الحضري الأصلي لها، ولا تظهر أي دليل على نشاط سكاني إسرائيلي كبير حتى القرن التاسع قبل الميلاد، ومع ذلك فإن الهياكل الإدارية المتميزة مثل الهيكل الحجري المتدرج والأبنية الحجرية الكبيرة تحتوي على ثقافة تعود إلى العصر الحديدي الأول، وقد اعتبر عالم الآثار إسرائيل فينكلستاين أن القدس في القرن العاشر قبل الميلاد كانت قرية صغيرة بين قرى يهوذا وليست عاصمة للملكة بسبب النقص الواضح في النشاط الاستيطاني فيها في ذلك القرن، ويعتقد فينكلستاين أن المدينة ربما كانت غير مأهولة بشكل غير كامل، وتشير مجموعة من الأوامر العسكرية التي عُثر عليها في أنقاض قلعة عسكرية في النقب تعود إلى فترة مملكة يهوذا إلى معرفة القراءة والكتابة على نطاق واسع.
بين السكان، وباعتبار أن هذه الأوامر منقوشة على الألواح فإن القدرة على القراءة والكتابة كانت ممتدة عبر سلسلة من القيادات العسكرية، وقد كانت معرفة القراءة والكتابة موجودة على جميع مستويات الأنظمة الإدارية والعسكرية والكهنوتية في يهوذا، ولم تقتصر معرفة القراءة والكتابة على نخبة صغيرة، وهذا ما يشير إلى وجود بنية تحتية تعليمية كبيرة في يهوذا في ذلك الوقت، ولقد حاول ملوك يهوذا في أول ستين سنة من عمر المملكة إعادة فرض سلطتهم على مملكة إسرائيل الشمالية، وكانت هناك حالة حرب دائمة بين المملكتين، وكانت إسرائيل ويهوذا في حالة حرب طوال فترة حكم رحبعام الذي دام سبعة عشر عاما، وقد بنى رحبعام دفاعات متقنة وحصَّن مدنه بشكل جيد، ولكن في السنة الخامسة من حكمه هاجم الفراعنة مملكة يهوذا على رأس جيش كبير واستولوا على العديد من المدن في القرن العاشر قبل الميلاد، وقد دفع رحبعام كل كنوز الهيكل كجزية للفراعنة، وأصبحت مملكة يهوذا تابعة لمصر.

