recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

تشريعات الإسلام في التعامل مع المال

الصفحة الرئيسية

 أفكار مبعثرة سلسلة متنوعة (كلام في الدين )

تشريعات الإسلام في التعامل مع المال

دراسة تحليلية 




بقلم حافظ وكوك

نظرة الإسلام إلى المال( المال ملك لله، الإنسان مستخلف في المال، للإنسان  حرية نمائه بشرط عدم الإضرار بالآخرين، المال وسيلة لا غاية)، من تشريعات الإسلام في التعامل مع المال ، دعوة الإسلام إلى تنظيم المال تنظيماً تراعى فيه حقوق الجماعة، ميزان الرجال في الإسلام، حقيقة الفقر ومن تصرف لهم الزكاة، المراد بالمال العام وحكم استحلاله، سمات المال العام وزكاته، صيانة المال العام أمانة ومسئولية، أهم الملامح لتحقيق النهضة والتنمية، 1-حماية المال العام وصيانته من النهب والإهدار، 2-العمل على \استرجاع كل ما تم نهبه طوال العقود السابقة 

 إنَّ نظرة الإسلام للمال تدل على أصالة هذا الدين فهي تخالف النظرة الدينية السابقة عليه، وذلك لأن المادِّيَّة طغت في الفكر اليهودي وقابلها روحانية النصرانية وانشغالها بملكوت السماء تاركة (ما لقيصر لقيصر.... وما لله لله). 

أما الإسلام فقد وضع منهجه في المال على أُسُس سامية قويمة وقيم عالية رفيعة جاء على رأسها أنَّ المال ملك لله وأنَّ الإنسان مستخلف فيه وأنَّ له حرية نمائه بشرط عدم الإضرار بالآخرين كما أكدت تعاليم الإسلام أنَّ المال وسيلة لا غاية

أولاً: ملكية المال لله قال تعالى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور: 33)

ثانياً: الإنسان مستخلف في الما قال تعالى {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (الحديد: 7)

ثالثاً: مالك المال حرٌّ في تنمية ماله عباد الله هذه الحرية مشروطة بعدم الإضرار بالجماعة الإنسانية وهذه الجماعة لها حق معلوم في هذا المال أقل هذا الحق ألا تضرَّ الجماعة بهذا المال، وهذا المال ممدوح في القرآن إذا كان طاهر المصدر. طيب الإنفاق، وبشيء من الإيجاز والعمق أقدم هذه الجمل موضحاً ومدافعاً، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

رابعاً: المال وسيلة لا غاية معاشر المسلمين إنَّ نظرة الإسلام للمال واضحة فهو يرى المالَ وسيلةً لا غاية ويعتبر المالَ خيراً إذا كان في يد مؤمن وأنفقه مالكه في مجال الخير. ليحققَ به عفة في الدنيا. وسعادة في الآخرة، قال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (البقرة: 180) وقال جل ذكره {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} (العاديات: 7)، والمراد من الخير في الآيتين هو المال، لذلك امتدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - المال الصالح في يد العبد الصالح وما دام المال مال الله.... والإنسان مستخلَفٌ فيه فقط فالإسلام يبني على ذلك هذه التشريعات: 

من تشريعات الإسلام في التعامل مع المال : 

حق الفقير أكَّد الإسلامُ حقَّ الفقيرِ في المال واعتبر الجزء الذي يصل إلى الفقير هو محض حقه المعلوم في مال الغني وذلك لأن مالك المال عندما يدفع للفقير جزءاً من ماله فإنه يبرئ ذمته. ويطهّر ماله. ويرضي ربه وقد أكد القرآن هذا المعنى، قال تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}( الأنعام: 41) وقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} (الأسراء:26) وقال سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19). إنَّ من لطائف القرآن أنه لم يستعمل كلمة "حقه" إلا فيما يأخذه الفقير من مال أو ثمر، على أن الإسلام قد راعى مشاعر الفقير وحافظ على إنسانيته حفاظاً شديداً، وذلك عندما أمر بإخفاء الصدقة. وعدم المنَّ بها، كما أوصى باختيار نوع الصدقة التي تقدم للفقير والآن مع نصوص القرآن.

إخفاء الصدقة:أمر الإسلام بإخفاء الصدقة قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 272) 

والذي أفهمه من الآية الكريمة أنها قسمت الصدقات إلى قسمين، قسم يُعطَى للمشاريع الخيرية، فإعلانه ممدوح شرعاً لتحريض على فعل الخير - مع الحرص على الإخلاص، وقسم يُعطَى للفقير فيجب إخفاءه حرصاً على كرامته قال تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من تصدق فأخفى صدقته مع السبعة أصناف الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه كما أنَّ إخفاء الصدقة حفاظ على مشاعر الفقير. 

تحريم المنِّ: حرمّ الإسلام المنَّ على الفقير بعد إعطائه الصدقة قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ...} (البقرة:: 262-264) أمَّا قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان: 8-9) فأحبُّ أن أوضح أن القرآن قد صوَّر حالتهم النفسية من الإخلاص بقوله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فهم لم يقولوا ذلك بألسنتهم ولكن علم الله ذلك في قلوبهم، فكأنَّ لسان حالهم يقول للفقراء هذا الكلام.

اختيار الصدقة: أوجب القرآن على المؤمنين اختيار الصدقات فلا يجوز اختيار الرديء من الثمر استهانةً بالفقير قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (آل عمران: 92)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة: 267) كل هذه المعاني تؤكد مراعاة الإسلام لمشاعر الفقير واحترام شخصه.

حق الجماعة: احترم الإسلامُ الملكيةَ الفردية، ومع ذلك أكَّد حق الجماعة في المال، فجعل للمالك الحق في التصرف في ماله بشرط عدم الإضرار بالجماعة.

دعوة الإسلام إلى تنظيم المال تنظيماً تراعى فيه حقوق الجماعة

1 - حرَّم الاحتكار فلا يجوز للمالك أن يحتكر أقوات الناس طلباً لرفع الثمن.

وموقف الإسلام من الاحتكار شديد. فقد جاء في صحيح مسلم "لا يحتكر إلاّ مخطئ"، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر أقوات المسلمين أربعين يوماً ثم تصدق بها لا يقبل الله منه.

2 - كما حرَّم بخس الثمن فلا يجوز للمشتري أن يستغل حاجة البائع وينقص الثمن قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}(هود: 85)، قإذا قالت المادِّيَّة: إن الحياة فرص، والبائع سيقبل بأي ثمن، قال الإيمان المتدفق في القلوب: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (هود:86)

3 - حرَّم التنمية بما يضرُّ الجماعة هذا يا عباد الله مراعاةً لحقوق الجماعة حَرَّم الإسلامُ على صاحب المال إنتاجَ أو بيعَ ما يضرُّ الجماعة، سواء كان الضرر لدينهم كبيع كتب الإلحاد، أو الضرر لعقولهم كبيع الخمور والمخدرات، أو الضرر لصفوفهم كبيع السلاح للأعداء.

 إن الإسلام يمزج بين الاقتصاد والعقيدة حتى يجعل من ضمير المسلم رقيباً على تصرفاته، وقد سجَّل القرآن الحوار البديع الذي دار بين سيدنا شعيب النبي وبين قومه، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} ... الآيات (هود: 84-87)، والواضح أنَّ القوم تعجبوا من نبيهم عندما طلب منهم تنظيم المال تنظيماً تراعى فيه حقوق الجماعة وحقوق الفقراء، كما أن الآية تربط بين العقيدة والتطبيق العملي للإيمان. لأن حلَّ المشاكل الاقتصادية في ضوء الفكر القرآني دليل على صدق الإيمان ورسوخه في النفس، وهذا ما يهدف إليه الحوار المذكور.

عباد الله إن القرآن يعالج مشاكل اليوم بأخبار الأمس وهذا بعض هدف القصة القرآنية.

4 - الجمود والسيولة احتراماً لحق الجماعة في المال يكره الإسلام جمود الثروات، إن تنمية الأموال - في الأعمال النافعة - أداه لرسالة المال.

وقد فرض الإسلام الزكاة في المال المحبوس - الذي لا يستخدم في المشاريع النافعة – كما فرضها في المال المستخدم في التنمية، وذلك حتى يدفع أصحابَ رؤوس الأموال إلى تنمية أموالهم.

أيُّها المسلمون إن المال الجامد ينقص منه كل عام وذلك بسبب أداء حق الزكاة، لذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأوصياء على اليتامى أن يتاجروا في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة.

والإسلام ينزع ملكية الأراضي الزراعية التي يدفعها الإمام إلى من يحييها ويزرعها فتمضي أعوام ثلاثة ولم تزرع الأرض، ينزعها الإسلام ويعطيها لمن يزرعها.

 فإن حبس الأرض وتعطيلها عن رسالتها ظلم للجماعة التي تنتظر الثمر ليعم الرخاء - حسب قانون العرض والطلب -، وظلم للفقير الذي ينتظر الثمر ليأخذ حقه منه، وإن جمود المال - لأيِّ سبب - هو انحراف عن رسالة المال. 

ميزان الرجال في الإسلام

إنَّ قيمة الإنسان البشرية لا تعرف ميزاناً عادلاً للرجال، وأكثر ما تقيس الرجل بما في يديه، من عاش قُوِّم بما ملك، ومن مات تساءلوا عمَّا ترك، وقد اعترض اليهود على "طالوت" - الذي اختاره الله ملكاً عليهم - لأنه لم يؤت سعة من المال! قال تعالى: {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} (البقرة:248)، معاشر لمسلمين إن مقياس الرجال عند اليهود - وعند المادِّيَّة في كل عصر - هو المال، فلما جاء الإسلام قرّر ميزاناً جديداً للرجال جعل الرجل بما في قلبه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، إن الرجل الخسيس لا يرفع من خِسَّته أن يملك خزائن الأرض، قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} (الليل:11)، عباد الله "إن صاحبَ العرشِ عظيمٌ، فهو لا يرفعُ إليه خَسيساً، وهو غنيٌّ فهو لا يكرم أحداً من أجل ما يملك"، فوأبو لهب عندما انحرف إلى الكفر {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (المسد :2)، وإذا لم يصادف ثراءُ اليدِ كرمَ النفسِ فلا خلود ولا كرامة قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} (أول سورة الهمزة)

أيُّها المسلمون إنَّ الخلود لا يشترى بالمال. وأي مقياس للرجال بغير التقوى خطأ عظيم، قال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 38) فمقياس الرجال في الإسلام إيمان وخلق، فمن تمتع بهما فلا يضرُّه أن يملك الدنيا. ولا يَنقصُ من قدره كفاف العيش.

حقيقةالفقر ومن تصرف لهم الزكاة: 

الفقر الشريف: تكلَّمْنا عن ميزان الرجال في الإسلام فهل يمدح الإسلام الفقر؟ 

 إنَّ القارئ لبعض النصوص الكريمة يمكن أن يفهم هذا كما أنَّ أعداء الإسلام يصورون الدين مخَِّدراً للفقراء ليصبروا على ذل الفقر، ونحن نظلم هذا عندما نخطئ فهمه، إن الإسلام لم يخاصم الدنيا ولم يصدَّ الناسَ عنها كل ما في الأمر أنه لم يأمر المسلمين بحب الدنيا اكتفاء بما في طبيعتهم البشرية من حبها، كما لم يأمر الآباء بحب الأبناء اكتفاء بما في فطرة الأب من حب أولاده، ويحرص الإسلام على الاعتدال في طلب الدنيا وفي طلب الآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77) فعلينا أن نفهم الفقر الذي امتدحه الإسلام، إنه – حقًا - ليس الفقر الناشئ عن الكسل وترك العمل الجاد.... لا، إنه فقر ناشئ عن الإحصار في سبيل الله، إن المشركين جرَّدوا المهاجرين من كل شيء لكي يسمحوا لهم بالهجرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}( البقرة:274) معاشر المسلمين فهذا نوع من الفقر الذي يحترمه الإسلام والذي تعنيه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي امتدحت الفقر، ومثل هذا النوع - في التكريم - فقر سببه الوقوف مع الحق، إن كلمة الحق مرة، وكم جرَّتْ على أصحابها المتاعبَ ولكنَّها ضريبةُ الإيمان وأمانة الفتوى. 

هذا فقر سببه العفاف عن المحرمات وتحري لقمة العيش الحلال، كأني بامرأة فقيرة تقول لزوجها (عند خروجه للبحث عن لقمة العيش)، يا فلان.... تحرَّ لقمة العيش الحلال. فنحن نصبر على الجوع ولا نصبر على حرِّ النار، فخلف من بعدهم خلف تقاعسوا عن الحياة باسم الدين ورضوا بالهوان باسم التوكل على الله، إن الجنديَّ المجاهد متوكل على الله، والزارع المجد متوكل على الله، والطالب الساهر في المذاكرة متوكل على الله، والتاجر الصدوق متوكل على الله.

 فأيُّ تعارضٍ بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، فالتوكل على الله قوة للنفس تدفعها للأنتاج قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران:159)، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التوكل صورة من الحركة الدائمة وليس متّكأً للأحلام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً.... وتروح بطاناً، فالطير تغدوا وتروح في طلب الرزق، وهل يطلب من الطير غير ذلك؟ فهذا هو التوكل الصحيح

ومن الطريف أن أحد العلماء لقي رجلاً في طريقه للحج وليس معه زاد، قال له الشيخ: كيف تسافر بلا زاد؟، قال الرجل: أنا متوكل على الله، قال الشيخ: أتسافر وحدك أم مع القافلة؟، قال الرجل: مع القافلة، قال الشيخ: بل أنت متوكل على القافلة.

أوجه صرف المال لما كان -المال- عصب الحياة وشريانها، وكانت المشاكل تحصل بسببه بين الناس ويحصل النزاع والقتال من أجله. جعل الله تبارك وتعالى له مصارف عادلة يُصرف فيها لمستحقيها- من الفقراء والمساكين والمحرومين. فعدد الله ثمانية أصناف من هذا النوع تعطى لهم الزكاة من أموال الأغنياء، يأخذها ولي أمر المسلمين ويقسمها بينهم كما أمر الله جلت قدرته، ووضح ذلك غاية الإيضاح، فلم يترك ذلك لاختيار أحد، ولم يتركها كذلك للأغنياء أنفسهم يعطون من شاءوا ويحرمون من أرادوا حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وآراؤهم فقال تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(التوبة:61) 

فهؤلاء هم أصحاب الزكاة الذين سماهم الله في كتابه فلا تجوز لغيرهم ولا تحل لغني ولا لقوي مكتسب. هذه هي مصارف الزكاة في الإسلام… مصارف عادلة لا ضرر فيها على أحد من الأغنياء، ولا بخس فيها للفقراء والمساكين كذلك، فيشعر الجميع بشعور الأخوة والتعاون على البر والتقوى، فحينما يقدم الغني الميسور لأخيه الفقير المعدم بعض فضله ويفيض عليه من سعته إنما يشعر أن هذا العمل الذي قام به واجب من واجباته وحق من حقوق أخيه يجب أن يؤديه ويقابل ذلك الأخ هذه المعاملة بالرضى والامتنان لله أولاً- ثم لأخيه ثانيا: فأولاً: لله الذي فرض هذه الفريضة العادلة فكفلته وشملته بعدلها وإنصافها ورحمتها، فلم تتركه للضياع والحيرة ولم تسلمه للفساد والانحراف أو السرقة والنهب والتخريب بعد أن عجز عن العمل تماما، وثانيا: لأخيه من بعد الذي تذكر أن له أَخا في الله له عليه حقٌ، يؤديه له طاعة لله، وامتثالا لأمره سبحانه وتعالى، فيعيش الجميع في صفاء ومحبة وألفة يستمتعون جميعا بعدل الله ورحمته، إخوة متحابين متعاونين كالجسد الواحد والحمد لله رب العالمين.

 بعد أن تحدثنا عن نظرة الإسلام للمال يجدر بنا أن نتعرض للحديث عن المال العام 

المراد بالمال العام وحكم استحلاله

عباد الله لم يكن مصطلح المال العام شائعًا عند الفقهاء المتقدمين، وإنما كانوا يعبرون عنه بمال بيت المال، فقد استخدم لفظ المال العام عند قلة من المتقدمين، وكثرة من المتأخرين، وقد عُرِّف بأنه: "المال المرصد للنفع العام، دون أن يكون مملوكا لشخص معين، أو جهة معينة وأشمل منه أن يعرف بأنه: المال الذي استحقه المسلمون بطريقة مشروعة، ولم يتعين مالكه، ويتولى ولي أمر المسلمين -النيابة عنهم- في صرفه في مصالحهم العامة. 

فالمال العام: هو كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم، وذلك كالزكاة والفيء، ونحوها، والأصل في التفريق بين المال العام والخاص: ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، حدثنا ثور الشامي، عن حريز ابن عثمان، عن أبي خداش، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار [إسناده صحيح].

فيؤخذ من هذا الحديث أن ما تعلقت به حاجة الجماعة في الانتفاع به في أشياء معينة، فإنه لا يجوز أن تقع تحت التملك الفردي، وإنما تحجر أعيانها، وتباح منافعها، وذلك كما في الأنهار الكبيرة والطرق والجسور ووسائل المواصلات العامة والأراضي المتروكة حول القرى لتستعمل من قبل أهلها للرعي والحصاد وغيرها.

أما عن استحلاله عباد الله فإنَّ تاريخ الإسلام لم يعهد استحلال المال العام إلا من جهة الخوارج، فالمواصلات مال عام، والكهرباء مال عام، والمجاري مال عام، والمياه مال عام، وقد تجد شخصاً موظفاً في الحكومة وهو في الليل والنهار ينهب ويسرق، ويقول: هذا مال عام! والمال العام أشد حرمة من المال الخاص، وهذا مذهب أهل الحق وهو الذي نراه ونوصي به فيا أيُّها المسلمون حافظوا على أموالكم العامة ولا تعتدوا عليها.

وللحديث بقية إلي اللقاء.


تشريعات الإسلام في التعامل مع المال


google-playkhamsatmostaqltradent