recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

القدس معاناة إنسان

 القدس معاناة إنسان 


بقلم: الدكتور عادل عامر 


تُعد سياسة إسرائيل المتمثلة في بناء وتوسيع مستوطنات غير قانونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة أحد العوامل الأساسية وراء انتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق الناجمة عن الاحتلال. فعلى مدار الخمسين عاماً الماضية، هدمت إسرائيل عشرات الألوف من ممتلكات الفلسطينيين، وشردت قطاعات كبيرة من السكان من أجل بناء منازل ومرافق أساسية لتوطين أعداد من سكانها بشكل غير قانوني في الأراضي المحتلة. كما حوَّلت إسرائيل كثيراً من الموارد الطبيعية للفلسطينيين، مثل المياه والأراضي الزراعية، لاستخدامها في المستوطنات. 


إن تقييد سبل حصول الفلسطينيين على المياه، من خلال نظام تخصيص حصص المياه، لا يفي بالاحتياجات الأساسية للسكان الفلسطينيين، ولا يوفر التوزيع العادل لمصادر المياه المشتركة. ويُعد مشهد حمامات السباحة، والمروج الزاخرة بالمياه، والمزارع الشاسعة المروية في المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تشع خضرةً حتى في ذروة موسم الجفاف، مشهداً يتناقض بشكل صارخ مع المشهد في القرى الفلسطينية القاحلة والمجدبة الملاصقة لهذه المستوطنات، حيث يعاني سكانها أشد المعاناة من أجل الحصول على ما يكفي من المياه للاغتسال والاستحمام والطهي والتنظيف أو الشرب، ناهيك عن توفير المياه لري محاصيلهم. 


منذ عام 1967، اعتقلت السلطات الإسرائيلية مئات الألوف من الفلسطينيين، وبينهم نساء وأطفال، بموجب أوامر عسكرية، يجرِّم كثير منها عدداً كبيراً من الأنشطة السلمية. وفي أوقات احتدام التوتر والعنف، كان الرجال والصبية في قرى بأكملها يتعرضون للقبض عليهم في حملات جماعية وتعسفية. وأثناء الانتفاضة الفلسطينية بين عامي 1987 و1993، قبضت القوات الإسرائيلية على نحو 100 ألف فلسطيني. 


كما اعتقلت السلطات الإسرائيلية بشكل تعسفي مئات الألوف من الفلسطينيين، وبينهم سجناء رأي، واحتجزتهم إلى أجل غير مسمى رهن الاعتقال الإداري بدون تهمة أو محاكمة. 


وتُعد سياسة إسرائيل المستمرة منذ 50 عاماً، والمتمثلة في احتجاز فلسطينيين من الأراضي المحتلة في سجون داخل إسرائيل، انتهاكاً للقانون الدولي. كما يواجه السجناء الفلسطينيون قيوداً على زيارات عائلاتهم، وعلى الالتحاق بالتعليم، والحصول على الرعاية الطبية، وغير ذلك من القيود. 


​​تعتبر القدس درة التاج لدى الشعب والقيادة الفلسطينية التي تطالب بأن تكون القدس الشرقية عاصمة للدول الفلسطينية العتيدة، وترفض أي حلول لا تشمل القدس وخاصة البلدة القديمة منها حيث الأماكن المقدسة وخاصة الحرم القدسي الشريف وكنيسة القيامة وغيرها من الأماكن والمزارات الدينية والثقافية التاريخية. 


المعاناة الفلسطينية في القدس تنعكس في العديد من الأمور. فهناك الصراع على الأرض ومحاولة وقف الاستيطان وتمكين المقدسيين من البناء وتطوير أراضيهم وأحيائهم. وتنعكس أيضا على المؤسسات حيث تستمر إسرائيل مستخدمة قانون الطوارئ في إغلاق بيت الشرق والغرف التجارية وحوالي 22 مؤسسة فلسطينية أخرى. 


إن لب الصراع على القدس يجب أن يتركز على موضوع السيادة الفلسطينية وحق المقدسيين في تقرير مصيرهم. فرغم أهميته الرمزية فإن موضوع العاصمة هو أمر ثانوي إذا ما تمت مقارنته مع موضوع السيادة. فالتواصل الاجتماعي والاقتصادي والحياتي بين القدس وباقي المدن الفلسطينية سيتحقق فقط في حال وجود سيادة عربية على المدينة وليس من خلال التسميات، إذ تعتقد إسرائيل والإدارة الأميركية أن إلصاق لوحة عاصمة فلسطين على أي مكان ضمن محافظة القدس سيعتبر التعامل الأفضل مع هذا الاستحقاق الفلسطيني. 


وهناك العديد من الدول في العالم التي لا تختار أهم مدنها لتكون العاصمة، بل تتشكل في تلك الدولة عاصمة تجارية وأخرى رسمية. فمثلا كبرى مدن الولايات المتحدة مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس ليست عواصم فيدرالية أو حتى ضمن الولاية الموجودة تلك المدن فيها. 


فالأمر إذا لا يرتبط بموضوع العاصمة بقدر ما هو مرتبط بموضوع السيادة. 


المطلوب أن يكون للمواطن الفلسطيني الساكن في القدس مرجعية سياسية ذات نفوذ وتأثير الأمر الذي يتطلب سيادة فلسطينية في القدس من دون أي معوقات أو تحديدات. 


حتى انتهاء الاحتلال هناك ضرورة لدعم صمود المقدسيين، وهذا يتطلب استراتيجية شاملة يشترك فيها المقدسيون بشكل معمق ويتم وضع آليات قابلة للتطبيق مع إطار زمني واضح لتحقيق الحد الأدنى المطلوب لرفع معنويات المقدسيين المنهارة بسبب الجدار والإغلاقات والمضايقات اليومية التي يعاني منها سكان القدس الشرقية. 


​​يجب تنفيذ الاستراتيجية المطلوبة على عدة مستويات لضمان نجاحها. فهي مطلب فلسطيني وعربي وإسلامي وعالمي وقد يكون أهم عناصر الصمود هو مبدأ شد الرحال للقدس الشريف ووضع زيارتها في مقام الحج الديني والسياسي. فكما قال في السابق ابن القدس فيصل الحسيني إن زيارة السجين ليست اعترافا بالسجان.  


فالفلسطينيون في المدينة المقدسة تواقون إلى إعادة اللحمة والتلاحم مع عمقهم العربي والإسلامي والدولي والزيارة للقدس توفر فوائد للطرفين فهي تدعم صمود المقدسيين وتوفر فرصة فريدة للزائر للتلاحم مع إحدى أهم مدن العالم. فالقدس مليئة بالتاريخ والحضارة والتراث وكل حجر فيها يحكي قصة ورواية تتطلب مجلدات لملئها.من المؤكد أن الصراع في القدس ليس محصورا بموضوع واحد مثل أين يتم وضع شعار عاصمة فلسطين. إن الصراع الوجودي في القدس هو صراع للمستقبل وللحفاظ على المقدسات والحضارة. فالقدس أبت في الماضي وستستمر بالرفض بأن تكون ملكا لأي طرف على حساب الأطراف الأخرى.فتاريخ القدس مليء بفشل محاولات احتكار المدينة المقدسة لدى طرف أو جهة واحدة على حساب الآخرين. المطلوب في البحث عن مستقبل القدس هو إيجاد معادلة تضمن بقاء القدس مدينة مفتوحة وفي نفس الوقت ضمان حق المقدسيين في تقرير مصيرهم الحر. 


يوجد الآن في القدس فلسطينيون وإسرائيليون كما يوجد مسلمون ومسيحيون ويهود ومن لا يعتنق أي ديانة محددة. فهل في الأفق حل يضمن لكل تلك الفئات الوطنية والاثنية والدينية حقوقها الكاملة، وأهمها الحق بتقرير المصير والسيادة على أرضها وممتلكاتها. 


لا يزال الفلسطينيون يعيشون صراعاً يومياً مع الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا يزالون محرومين منذ العام 1967 من أبسط متطلبات الحياة الطبيعية في المجالين العملي والانساني. والمجموعات البشرية الأكثر معاناة في هذا المجال هي تلك التي قدّر لها العيش قهراً على مقربة من المستوطنات ومن الحواجز الواقعة تحت السيطرة المدنية والعسكرية التامة لإسرائيل، والتي تشكل أكثر من 50% من الضفة الغربية حيث يحرم الفلسطينيون من الخبز والكرامة.  


ففي بعض مناطق الضفة تكاد توجد مستوطنة عند كل ربوة لها طريقها الخاص المؤدي اليها، وهي تحاط بالأسوار ونقاط التفتيش مما يعيق حركة الفلسطينيين في سعيهم لكسب عيشهم أو التواصل العائلي مع الأقرباء والأصدقاء. والعنف الذي يتعرضون له من جانب المستوطنين يثني الكثيرين منهم عن الذهاب الى أراضيهم لزراعتها أو لرعاية أغنامهم أو لجني حصادهم، هذا إذا أبقى لهم هؤلاء المستوطنون ما يجنونه أو يكسبونه. 


كما يواجه الفلسطينيون أيضًا مشكلة كبيرة في قلة عدد التصاريح الخاصة بالبناء التي تصدرها سلطات الاحتلال، مما دفع العديد من العائلات التي تتكاثر أعدادها بشكل طبيعي إلى البناء من دون ترخيص والمخاطرة بتعرض ما يبنونه بعد وقت وجيز إلى الهدم،  


الأمر الذي يرغم بعضهم على الرحيل بالإكراه. «إن العنف الذي يرتكبه المستوطنون يخلق حواجز غير مرئية تعيق المزارعين من الوصول إلى أراضيهم. والصعوبات الإدارية في الحصول على تصريح للبناء أو تطوير البنية التحتية في بعض المناطق الريفية تخلق هي الأخرى حواجز غير مرئية. 


 ويمكن أن تأخذ الحواجز غير المرئية شكل المناطق العسكرية المغلقة ومناطق اطلاق النار حيث يصعب فيها رعي الماشية... وهذه الأمور مجتمعة تخلق حواجز غير مرئية للسكان الذين يعيشون في المناطق الريفية من الأراضي المحتلة». 


أمام هذا الواقع, تعيش عائلات فلسطينية كثيرة حالات من المعاناة والرعب والاضطهاد تتمثل في هجوم المستوطنين على مساكنها وأملاكها ومزارعها، فيتم تحطيم النوافذ والأبواب تارة أو تقطيع الأشجار المثمرة تارة أخرى، أو منع الناس من الذهاب إلى أعمالهم أو إلى المستشفيات والمدارس، أو قطع الكهرباء والماء عنها.  


ووسط هذا الحصار العسكري، يصدر بين حين وآخر تقرير شامل لمنظمة العفو الدولية حول مجمل الأوضاع في الأراضي المحتلة فيكشف أشكالاً من معاناة الشعب الفلسطيني المظلوم، والتي من أبرزها حالات الإذلال والقهر عند الحواجز المنتشرة في كل أرجاء الضفة الغربية والتي لا تستثني الأطباء وسيارات الإسعاف والصحافيين. وفي هذا السياق فإن إحدى العقوبات المنتشرة على نطاق واسع عند نقاط التفتيش، ابقاء الفلسطينيين لساعات طويلة من دون أي وقاية من الشمس أو المطر، وتعريضهم في بعض الأحيان حتى إلى إطلاق النار الذي قد يصل إلى القتل.  


ويتمتع الجنود الصهاينة الذين يقتلون أو يجرحون المواطنين الفلسطينيين بالحصانة والحماية القانونية، وفي أسوأ الاحتمالات لا يحكم عليهم سوى بأيام معدودة من التوقيف الشكلي الذي لا يلبث أن ينتهي بالأفراج عنهم بل وربما تهنئتهم على سلوكهم العدواني، بينما يقدّم الفلسطينيون الذين يعصون أوامر الجنود أو ينتهكون تدابير حظر التجول إلى المحاكم العسكرية، ويحكم عليهم بدفع غرامات مالية وبالسجن الفعلي لمدة تصل إلى خمس سنوات. 


وفي كثير من الأحوال يقوم الجنود الصهاينة بإيقاع العقاب الفوري على الفلسطينيين بالضرب أو مصادرة مفاتيح المركبات أو بطاقة هوية السائقين أو اطلاق النار على عجلات السيارات. وتتحدث منظمة العفو الدولية عن أنه من المستحيل على الفلسطينيين أن يعيشوا حياة طبيعية مع الحواجز الكثيرة التي تقطع أوصال الضفة الغربية، ومع جدار الفصل العنصري الذي حوّل القرى العربية إلى معازل تعاني الاختناق الاقتصادي والاجتماعي، علمًا أن عدد سكان هذه القرى المعزولة يصل إلى 200 ألف مواطن. ويذكر مبعوثو الأمم المتحدة أن الكثير من هذه العائلات المحاصرة بات يعاني البؤس والفقر المدقع وسوء التغذية المزمن. 


وتؤكد منظمة العفو الدولية أن اسرائيل تعرقل امكان حصول الفلسطينيين على أي عمل مهما كان وضيعاً وتمنعهم أيضاً من الحصول على مياه نظيفة وكافية. وهذه الإجراءات ادت أيضاً إلى ارتفاع حاد في الأسعار وإلى صعوبات جمة بوجه تصدير المنتجات، مما يعرض المحاصيل والأطعمة إلى التلف. ويضطر بعض العائلات إلى بيع الممتلكات والاقتراض من الأقارب والأصدقاء لشراء الغذاء بالدين. 


 وفي الوقت الذي تتزايد فيه أعداد من هم في سن العمل (15 سنة) تتراجع فرص العمل وتزداد البطالة. كذلك تتحمل المرأة الفلسطينية عواقب كل ذلك داخل المنزل وخارجه. ففي مجتمع اعتاد فيه الرجال أن يكونوا الكاسبين التقليديين للقوت واعتادت المرأة التي تعمل خارج المنزل أن تفعل ذلك في مجالات تتطلب المهارة، اضطر المزيد من النساء إلى تأدية أعمال وضيعة أو أعمال غير منتظمة وبأجر زهيد، الأمر الذي زاد من حدة التوتر والمشاكل داخل الأسر وأفضى إلى حالات عديدة من النزاع والطلاق. 


هذه الأوضاع المزرية تتفاقم بفعل اجراءات الاعاقة الاسرائيلية، ولا سيما نقاط التفتيش الأمنية والعسكرية على الطرق الرئيسة والفرعية التي تشمل الكتل الاسمنتية والبوابات الحديدية والسواتر الترابية بالإضافة إلى الخنادق. وفي تقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الانسانية العام الماضي، تبين أن العدد الاجمالي لهذه الحواجز ونقاط التفتيش قد وصل الى أكثر من خمسمئة بالإضافة إلى جدار الفصل الذي تجاوز طوله السبعمائة كلم وبعمق 20 كلم داخل أرضي الضفة الغربية، مع ما رافق ذلك من طرد للفلسطينيين من أراضيهم والاستيلاء عليها كجزء مكمل للمشروعات الاستيطانية اليهودية في مجمل  أنحاء الضفة، ولا سيما القدس والتي ضمت حتى الآن أكثر من 200 مستوطنة في داخلها أكثر من 530 ألف مستوطن يهودي. يضاف إلى ما تقدم ما يسميه الفلسطينيون بالطرق الالتفافية أو الطرق البديلة بحسب المصطلح الاسرائيلي، 


 وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم خاضع للاستخدام الاسرائيلي المطلق وغالباً ما يستخدم لأغراض عسكرية، وقسم سمح للفلسطينيين بسلوكه لكن بترخيص رسمي، وقسم يسمح للفلسطينيين باستعماله بشكل حر ولكنه يخضع للتفتيش وبالتالي لابتزاز الجنود وأساليبهم المختلفة في الاعاقة والاذلال خلافًا للإعلان العالمي لحقوق الانسان وخلافاً لما يحاول الاسرائيليون اشاعته عن جيشهم بأنه جيش «أخلاقي»، وهو بكل تأكيد عكس ذلك تماماً.  

google-playkhamsatmostaqltradent