الجزء الثالث من "نساء لهن فضل"
بقلم-داليا السبع
"خولة بنت الأزور "
بكاءٌ يدفعها للجنونِ ، واختناقٍ للروحِ يحملها على مشارفِ الضياعِ والفشلِ، تحدثُ نفسهاَ بصوتٍ مرتفعٍ أمامَ والدتها التي ظلتْ تستمعُ إليها في صمتٍ وسطَ نظراتِ عيونها التي حكت ألفَ كلمةٍ دونَ أنْ تنطقَ بكلمةٍ واحدةٍ، كم أنَّ حزنها على حالِ ابنتهاَ تَجاوزَ كل الحدودِ، تستطردُ "فرح " كيفَ أن زميلاتهاَ دائمي السخريةَ منها ، والتنمرِ عليها، داخل الجامعة مما دفعها للأنطواءِ ورغبةٍ شديدةٍ في تركها، وترك حلمها في أن تصبحَ يوماً ما "مهندسة ديكور" ناجحة ، جالسةٌ ب صمتٍ أستمعُ لحديثها مع والدتها وقرارها بالتخلي عن جامعتها ، والذي جعلَ الدموعَ تنهمرُ من عيني أمها، في لحظاتٍ دونَ أن تشعر، فقررتُ أن أقومَ بإعدادِ أكوابٍ من القهوة، و بكلماتٍ ظريفةٍ حدثتهم ها قد أحضرتُ لكم القهوةَ اللذيذةَ ،تفضلي أختي كوباً ، قالت أشكرك غاليتي ، نظرتُ إلى بنت أختي الحزينة ، وقلتُ لها بطرافةٍ كوبُ من هذا ؟! رفعتْ رأسها ونظرتْ نظرةً يملؤها يأسٌ شديدٌ ، ناولتهاَ الكوبَ،اخذتهُ بلطفٍ مني ثم شكرتني ، جلستُ قائلة لها إسمحي لخالتك بأن تعطي لك بعضَ خبراتها في الحياة ،
"فرح" تجيب :خالتي الحبيبة تفضلي ، إرتشفتُ قليلاً من القهوة ، ثم بادرت بالحديث، كيف تستسلمين وتتخلين عن هدفك الذي لطالما سعيتي لتحقيقهِ ؟! هل سمعتِي من قبل عن جندي تركَ ساحةَ القتال وفرّ من تأديةِ واجبه ؟! إن التاريخ حبيبتي لا يذكر سوى الأبطال! ليس فقط ب الحروب ،ولا في ساحات المعارك فقط ،إنما في كل مجال يواجه فيه الإنسان الصعاب التي تعمدُ أن تضعهُ في مواجهة مع العديد من التحديات التي تعقد لنا امتحاناً صعباً ! هل سنتمكن من حله و نستطيعُ أن نتجاوزها لنحققَ أحلامنا أم سننهزم عندَ أولِ مواجهة ؟! هذا تماماً ما يحدث معكِ الأن من تنمرٍ وإسقاطاتٍ نفسيةٍ من قبل زملاءك وزميلاتك بالجامعة ! والخيار لك غاليتي ! هل ستدعينهم ينجحون أم ستغلقين أذنيك عن هذه التفاهات النفسية وتكملي مسيرتكِ بعزيمةٍ وإقدامٍ وكفاحٍ حتى الوصول لأهدافك التي تحلمين تحقيقها ، إذاً لا مفرّ من المواجهة! يجب أن تواجهي مخاوفك كلها يا "فرح "
ولنا في حياتنا العديد من النماذجِ التي حفرتْ لها مكاناً في التاريخِ بحروفٍ من ذهبْ على مر العصورِ ولن أحدثك الأن عن نماذجٍ بعصور الحداثة والتطور ،وإنما سأذكرُ لك نموذجاً في زمنٍ كانت فيه المرأة تحاولُ دوماً أن تجد لها مكاناً بجانبِ الرجل زمنٌ كان يُنظر لها كونها محددة الأدوار وأنها لا تستطيع القيام بغيرها، سأحدثك عن "خولة بن الأزور "
سألتني" فرح " ومن تكون
هذه الشخصيةُ النسائيةُ؟!
لقد أثرتِ فضولي يا خالتي لأعرف قصتها،
ابتسمتُ وأنا أجيب على سؤالها ، هى تلك المقاتلة والشاعرة من قبيلة أسد وهى أختُ "ضرار بن الأزور" واحدٌ من الفرسان المشهودِ لهم بالضراوةِ في القتالِ والحربِ ، إشِتُهِرَت "خولة بنت الأزور " بالجزالة في شعرها وفخامتهِ ، وكان أكثرهُ في الفخرِ ، تربتْ في الباديةِ العربيةِ مع أبناءِ قبيلتهاَ بني أسد ، ولازمتْ أخاهاَ ضراراً ،فكاناَ دوماً معاً،ودخلتْ الإسلامَ مع من دخل من العرب في ذلك الزمن الأولِ للإسلام،
وشاءَ اللهُ أن تكونَ وأخوها ضرار مع الكتائبِ الطلائعيةِ المتقدمةِ للجهادِ في سبيل الله وإعلاءِ كلمة الحق ،
"فرح" متسائلة هل حاربت مع أخيها حقاً؟! نعمْ غاليتي فقد شاركتْ وبكلِ بسالةٍ بين الرجالِ والنساءِ مع أخيها ضرار على مدىَ عصورِ الكرِ والفرِ وحملِ الرماحِ ورمي السهام ،
قاطعتني" فرح " قائلة أشعر بأن قصة" خولة" حماسية حقاً يا خالتي! هذه الفارسة التي لم تخشى شيئاً ، ولم تُرهبهاَ مواقفٌ قد يهتز لها أقوى الرجال ، صدقتْ "فرح" فهذه الفارسةٌ الشاعرةٌ قد مضتْ في زمنٍ قديمٍ لنا ، تستحقُ منا نظرةَ دراسة ، نظرة مراجعة ، ونظرة إعزازٍ وإكبارٍ ، إنها حقاً قدوةٌ في الشجاعةِ والبسالةِ للكبارِ والصغارِ وللنساءِ كافةٍ ، والتآذر مع الأهلِ والأخوةِ ، ومن المواقفِ البطوليةِ التي خَلَّدتها السيرُ والمراجعُ المتوفرة ، موقف وقوع أخيها ضرار بالأسر في إحدى الموقعات ، فحزنتْ لأسرهِ حزناً شديداً ،
وقالت في حزنها
لا مخبر بعد الفراقِ يخبرنا
فمن ذا الذي يا قومُ أشغلكم عنا
لقد كانت الأيامُ تزهو لقربهم
وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا
ألا قاتلَ الله النوىَ ما أمرّه
وأقبحهُ ماذا يريدُ النوى منا
وقالت أيضاً
أبعدَ أخي تلذُ الغمضَ عيني
فكيف ينامُ مقروحَ الجفونِ
سأبكي ماحييتُ على شقيقٍ
أعزُّ عليّ من عيني اليمينِ
وإنا معشرُ من مات مناً
فليس يموتُ موت المستكينِ
وإني إن يقال مضى ضرار
لباكية بمنسجم هتون
وقالوا لم بكاكِ فقلت مهلاً
أما أبكي وقد قطعوا وتيني..
وجدتُ أختي وقد تذكرتْ موتَ ابنها الشهيد فظلت تبكي دون إنقطاع فتوقفت فجأة سرد بقية القصةو ناشدتها أن تقرأ له الفاتحةَ فرفعنا أيدينا لله تضرعاً وتلونا بعضاً من أيات الله البينات رحمةً على روحهِ وأرواحِ شهداءِ الواجبِ أجمعين، وبعد أن أنتهينا طَلبتْ مني "فرح " أن أكمل سردَ القصةِ لهم فأجبتها نعم سوف أكملها حيث يحضرنيِ موقفٌ لها في أجنادين وهى قرية تقع شرقي القدس في فلسطين أن خالد بن الوليد نظرَ إلى فارسٍ طويلٍ لا يبينُ منهُ إلا الحدق والفروسية تلوحُ من شمائلهِ، عليهِ ثياب ٌ سودٌ وتظاهرَ بها من فوقَ لامتهِ ، وقدْ حزمَ وسطهُ بعمامةٍ خضراء وسحبها على صدره ،وقد سبقَ أمامَ الناسِ كأنه نار
فَقالَ خالدٌ : ليتَ شعريِ َمَنْ هذا الفارسُ ؟ وأيمُ الله إنهُ لفارسٌ شجاع ، ثم لحقهُ والناسُ وكان هذا الفارسُ الملثمُ أسبقُ إلى المشركينَ، فحملَ على عساكرِ الرومِ كأنه النار المحرقة ،فزعزعَ كتائبهم وحطمَ مواكبهم
ثمَ غابَ فيِ وَسْطَهم حتىَ خرجَ وسنانهُ ملطخٌ بالدماءِ مِْن جُندِ الرومِ ، وَظلَّ يَخترقُ القومَ غير مكترثٍ بهم فقلقَ عليهِ المسلمونَ، وقالَ رافعٌ بن عميرة: ليسَ هذا الفارسُ إلا خالد بن الوليد ثمَ أشرفَ عليهم خالد ، فقال رافع: مَنْ الفارسُ الذي تقدمَ أمامكَ فلقدْ بذلَ نفسهُ ومهجتهُ؟ فقالَ خالدٌ واللهِِ إنني أشدُ إنكاراً منكم لهُ ، ولقد أعجبني مَا ظهرَ منهُ ومن شمائلهِ، فقالَ خالدٌ : معاشرَ المسلمينَ احملوا بأجمعكمْ وساعدوا المحامي عن دين الله ،فأطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وخالد أمامهم ونظرَ إلى الفارسِ فوجدهُ شعلةٌ من نارٍ والخيل في إثره ،وبعد أن وصل الفارسُ المذكور إلى جيشِ المسلمين فتأملوهُ وقدْ تَخَضَّبَ بالدماءِ، فصاحَ خالدٌ والمسلمونَ: للهِ دَرُّكَ منِ فارسٍ اكشفْ لنا عنْ لثامكَ، فمالَ عنهم ولم يخاطبهم وانغمسَ فيِ الرومِ فتصايحتْ بهِ الرومُ وكذلك المسلمونَ قالوا:أيها الرجلُ الكريمُ أميركَ يخاطبكَ وأنت تَعرضُ عنهُ، فلم يرد عليهم جواباً، فلما بَعدَ عنْ خالدٍ سارَ إليهِ بنفسهِ وقَال لهُ :ويحكَ لقدْ شغلتَ قلوبَ الناسِ وقلبي بفعلكَ منْ أنتْ ؟
فلما ألَّحَ خالدٌ خاطبهُ الفارسُ من تحتِ لثامهِ بلسانِ التأنيثِ وقال :إنني يا أميرُ لم أعرضْ عنكَ إلا حياءً منك لأنك أميرٌ جليلٌ وأنا من ذواتِ الخدورِ وبناتِ الستورِ فقال من أنتِ ؟ قالت خولة بنت الأزور وإني كنتُ مع بناتً العرب وقد أتاني الساعي بأن ضراراً أسير ففعلتُ ما فعلتُ .
قال خالد: سنحملُ بأجمعنا ونرجو من الله أن نصل إلى إخيكِ فنفكهُ.
ضحكت" فرح " ماأجملَ هذهِ الروحُ الجميلةُ التي تحلتْ بها هذهِ الفارسةُ الشجاعةُ ، حقاً قصةً رائعةً تدفعكَ لأن تواجهَ جميعَ الصعابِ و أن تتخطى الحواجزَ التي تحولُ دونَ أن تصلَ إلى أهدافكَ وتحقيقِ أحلامك بنجاحٍ ،تحدثتُ صَدقتْ" فرح "فيما قالت، فمثلْ هذهِ القصصِ التي تحمل من معانيِ الشجاعةَ والإقدامِ ومواجهةِ الصعابِ ببسالةٍ تزرعُ ب النفوسِ الإصرارَ والعزيمةَ على تحقيقِ المستحيلِ والمضي صوبَ الهدفِ دونَ تخاذلٍ أو توانٍ،
دعيني أكملُ لكِ هذهٓ واحدةٌ من مواقفهاَ الرائعةِ يومَ أسر النساء في موقعةِ "صحورا" بالقربِ من مدينةِ حمصٍ السوريةِ، وقفت في النساء وقتَ أُسِرَتْ مَعهنّ فقالت خولة :خُذنَّ اعمدةَ الخيامِ ، وأوتادَ الأطنابِ ونحملُ على هؤلاءِ اللئامِ
فلَّعلَ الله ينصرنا عليهم ، وَهَجمتْ خولة وهجمت النساءُ منْ وَراِئهاَ ، وقاتلتْ بهنَّ قِتالَ المُستيئسِ المستميتِ، حتى استنقذتهنّ من أيدي الرومِ ، وخرجتْ وهى تقولُ
نحنُ بناتُ تبع وحمير
وضربناَ في القومِ ليس
ينكر
لأننا في الحربِ نارٌ تستعرُ
اليومَ تسقونَ العذابَ الأكبر
فهذا هو النموذجُ الإنساني الرائع الذي يُحتذىَ به في الدفاعِ عن النفسِ والوطنِ والعقيدةِ وقدْ فرضتْ نفسها بقوةٍ وصلابةٍ على كل شخصً حضرَ صولاتها وجولاتها في ميادينِ الفروسيةِ تلكَ هى "خولة بنتُ الأزور" الفارسُ الملثمُ الشاعرةُ المحاربةُ المرأةُ العفيفةُ
التي عرفت أن المرأة ليست فقط روح وجسد و إنما عزيمة وقدرة تستطيع أن تصبح عنصراً مؤثراً موجهاً يسطره التاريخُ بحروفٍ ثمينةٍ ، وقدت توفيتْ في أواخرِ عهد الخليفةِ عثمان بن عفان ٣٥ه
"فرح" رحمَ اللهُ روحها وخلَّد هذه الذكرى العطرة سوف أستجمع شجاعتي لمواجهة هذا التنمر القائم
في الجامعة، ليعلم الجميع أنني لن أستسلم أبداً، وسوف أصل بفضل الله إلى هدفي وتحقيق حلمي .

