recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الدكتورة إيمان مرعي تكتب: المدن الذكية خبرات دولية وإقليمية: دروس مستفادة

الدكتورة إيمان مرعي تكتب: المدن الذكية خبرات دولية وإقليمية: دروس مستفادة


نائب رئيس تحرير دورية أحوال مصرية 

بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أدى التطور التكنولوجي في نهاية القرن العشرين إلى ظهور مجتمع من نمط جديد يعتمد اعتمادًا متزايدًا على المعرفة والتقنيات الرقمية، وقد تطور مفهوم المدينة نتيجة لهذا التغير وظهرت عدة مصطلحات ومفاهيم للمدن المعتمدة على التقنيات كالمدن الرقمية، والمعرفية، والذكية، ومن ثم لم تعد "المـــدن الذكية" ضربـًــا من الخيال العلمـــي، بل أصبح لها وجـــود فعلي في العديد من دول العالـــم لتخلـــق مدرســـة عمرانية جديدة. وأهم ما يميز المدينة الذكية عن غيرها من المدن هو تركيزها على الإبداع، والقدرة على حل المشكلات بهدف توفير بيئة مستدامة عالية الجودة للمواطنين.

وفي ظل مستويات التمدن غير المسبوقة، بات الاتجاه صوب المدن الذكية توجهًا عالميًّا، وهو التوجه الذي يجد امتدادًا له على الصعيد الإقليمي أيضًا، على نحو يتضح هو الآخر في عدد من النماذج الرائدة على المستوى العربي. وفي هذا الإطار، تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على ماهية المدن الذكية، وخصائصها، وأبرز النماذج الدولية والعربية الرائدة في المدن الذكية وسماتها، على اعتبار أن هذا النموذج من المدن ربما يكون موضع تنافس مستقبلي بين الدول الأكثر تطورًا في مجال التكنولوجيا والأكثر قدرة على الإبداع بهدف الحد من مخاطر بعض التحديات المستقبلية، مثل: تغير المناخ وتجنب الأضرار البيئية والحد من الأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية. 

أولًا-تطور اتجاهات التخطيط العمراني:

كانت نسبة الأفراد الذين يعيشون في المُدُن لا تتجاوز 5% من إجمالي عدد السكان حول العالم، حيث إن تركُّز البشر بالأساس في المناطق الزراعية، وحول الأنهار، لسدِّ حاجاتهم من الغذاء، ومع الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، بدأ انتقال الأفراد إلى المُدُن بهدف الحصول على حياة أفضل، وتزايد هذا الاتجاه مع الثورة الصناعية الثانية في القرن التاسع عشر، ثم ازدادت كثافته مع الثورة الصناعية الثالثة التي بدأت في ستينيات القرن العشرين، والتي عُرفت بالثورة الرقمية. ومع بداية القرن الحادي والعشرين أصبح عدد السكان الذين يعيشون في المُدُن يشكل نسبة 50% من إجمالي عدد سكان العالم، مدفوعًا بتأثيرات الثورة الصناعية الرابعة القائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من مُحرِّكات القوى التكنولوجية التي بدأت تتضح بالفعل مع أوائل هذه الألفية، وهو ما يعني الحاجة إلى إنشاء مُدُن كبيرة تستوعب هذا العدد الكبير من السكان، وفي الوقت نفسه تمتلك القُدرات والإمكانات المادية والفنية بصورة تحقق الاستدامة والفعالية(1)

ويُعد نموذج المدينة الذَّكيَّة هو النموذج الأوضح والأكثر قبولًا بين النماذج المختلفة لإدارة المُدُن العملاقة، خاصة في أعقاب الأزمة الاقتصادية 2008 -2009، حيث بدا واضحًا أن المُدُن في منافسة قوية مع نظيراتها من المُدُن الأخرى حول العالم، وكل مدينة تسعى للاستحواذ على النصيب الأكبر من خطوط التجارة العالمية، وذلك بهدف تحقيق التقدم الاقتصادي، ومن ثم اتجهت هذه المدن نحو تبنِّي مفهوم المدينة الذَّكيَّة.

ثانيًا-المدن الذكية: المفهوم والسمات

في تسعينيات القرن العشرين ظهر مفهوم "المدينة الذَّكيَّة"، وتحديدًا مع حركة النمو الذكي Smart Growth التي شهدتها هذه الفترة، ومن ثم فهو مفهوم حديث نسبيًّا ظهر داخل الأوساط الأكاديمية التي تبنَّت سياسات حديثة للتخطيط الحضري، وكان يهدف إلى تحديث البنى التحتية للمُدُن عبر إدخال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فيها، ثم تطور ليشمل أبعادًا أخرى منها التركيز على رأس المال الاجتماعي والعلاقات الإنسانية داخل المدينة الذَّكيَّة إلى جانب البُعد الفني فيها(2).

وعلى الرغم من أن مفهوم "المدينة الذَّكيَّة" أحد المفاهيم واسعة الانتشار، فإنه لا يُوجد تعريف واضح ومحدد، ربما بسبب التطور السريع الذي يصاحب الثورة الرقمية، حيث إن مفهوم المدينة الذكية يتشكل من خلال دمج تقنيات معقدة، وعوامل اجتماعية واقتصادية، وإجراءات حكومية، بالإضافة إلى محركات السياسة والأعمال. لذا نجد مصطلحات كثيرة مرتبطة في السياق نفسه بالمدينة الذكية، مثل المدينة الرقمية Digital City، والمدينة المعلوماتية Information City، ومدينة المعرفة Knowledge City، والمدينة الافتراضية Virtual City، والمدينة المستدامة Sustainable City، والمدينة الخضراء Green City، وكلها مفاهيم متداخلة. كما أن التصنيفات التي تحدد هذه النوعية من المُدُن متنوعة، بعضها يُضيِّق مؤشراته ويُقصرها على عناصر محددة حتى تأخذ في الحسبان المُدُن التي بدأت بالتحول بالفعل، وبعضها الآخر واسع، ويشمل حتى الدول التي تخطط في المستقبل القريب للتحول إلى مدينة ذكيَّة.

من ثم يمكن تعريف المدينة الذَّكيَّة بأنها "تلك المدينة التي تعتمد على التكنولوجيا الفائقة (High-Tech) المتقدمة، والتي تجعل كلًّا من الأفراد والمعلومات ومكونات المدينة، متصلين ببعضهم، مما يجعل منها مدينة تتَّسم بالاستدامة، وذات تجارة تنافسية وابتكارية، ودرجة عالية من جودة الحياة بداخلها، وفقًا لعدة مؤشرات منها: بنية تحتية من شبكات كهربائية وشبكات إنترنت تمهد لعملية إنشاء مدينة قائمة على المعلومات والمعرفة، وربط العنصر البشري بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات للارتقاء بعملية الإبداع والتعلم والمعرفة. إلى جانب الاقتصاد الذكي المتمثل في الصناعة، والتنقُّل الذكي، والبيئة الذَّكيَّة القائمة على حُسن إدارة الموارد، وتحقيق الاستدامة، والشعب الذكي القائم على التعلم، والحياة الذَّكيَّة القائمة على تحقيق عُنصرَي الجودة والأمن، والحوكمة الذَّكيَّة القائمة على الديمقراطية الرقمية(3).

وتختلف أنواع المُدُن الذَّكيَّة تبعًا لعدة عناصر، أولها: نوع التكنولوجيا المستخدمة فيها، والتي قد تكون تكنولوجيا مُغلقة المصدر، لا تستطيع تطويرها إلا الشركة التي قامت بابتكارها، أو مفتوحة المصدر، يمكن لأي مطور أو مُبرمج العمل عليها وتطويرها. وثانيها: الفواعل المساهمون في عملية بناء المدينة، سواء أكان القطاع الخاص منفردًا، أم بالتعاون مع المجتمع المدني في إطار استراتيجية حكومية.

وثالثها: القطاع الذي تخدمه المدينة، سواء أكان قطاعًا فرعيًّا أم جميع القطاعات بالدولة. ورابعها: درجة حداثة المدينة نفسها، فهناك مُدُن يتم بناؤها منذ البداية لتكون ذكيَّة، وهناك مُدُن قديمة يتم تحويلها إلى مُدُن ذكية(4).

ثالثًا-نماذج دولية:

مما لا شك فيه أن المدن الذكية تقع في قلب الاقتصاد الرقمي. وفي كل مرحلة من مراحل الاقتصاد العالمي، تبرز مدن وتختفي أخرى؛ فقد تصدرت نابولي والبندقية قلبي العالم التجاري حين ازدهرت التجارة بين الشرق والغرب، ثم قادت لندن عصر الثورة الصناعية، وكذلك فعلت نيويورك حين ازدهرت الأسواق المالية والشركات العابرة للقارات. ومع ظهور الاقتصاد الرقمي، تظهر مدن جديدة على الخريطة الاقتصادية، بما في ذلك: برشلونة وبوينس آيرس وشانغهاي وستوكهولم، حيث تسعى كل مدينة إلى تقديم نفسها كأهم تجربة عالمية وكعاصمة للتحول الرقمي من خلال التقنيات الحديثة وفي مقدمتها إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي ينعكس على المرور، وإدارة المخلفات، وأنظمة الاتصال، والخدمات الرقمية، وغير ذلك.

ويتباين تصنيف المدن الذكية على مستوى العالم من تصنيف إلى آخر؛ واعتمادًا على مؤشر (IESE Cities in Motion)، يمكن تسليط الضوء على المدن الذكية التي تحتل المراتب العشر الأولى على مستوى العالم؛ ففي المرتبة الأولى تأتي ولاية "نيويورك". وأهم ما يميزها نظم القراءة الآلية للمقاييس، واستخدام الصناديق الذكية التي تعمل بالطاقة الشمسية على نحو يكفل مراقبة القمامة، ويجدول جمع النفايات بانتظام. وفي المرتبة الثانية، تأتي مدينة "لندن" التي تتصدر المدن الأوروبية مجتمعة؛ ذلك لأنها مركز عصبي في مجالات: الفنون، والتجارة، والتعليم، والترفيه، والأزياء، والسياحة، والنقل، والتكنولوجيا، وغيرها. بينما تأتي "باريس" في المرتبة الثالثة لا سيما وأنها تضم 127 ميلًا من خطوط المترو المؤتمتة بالكامل بجانب 68 محطة جديدة. وتبعًا للمؤشر أيضًا، تتصدر "طوكيو" منطقة آسيا والمحيط الهادئ لتحتل المركز الرابع عالميًّا، بوصفها إحدى أكثر المناطق الحضرية شعبية في العالم، مع معدل الإنتاجية المرتفع وتنامي معدلات الاقتصاد ورأس المال البشري، إلى جانب استخدام تقنية التعرف على الوجه لتوفير الأمن. وتمتاز ريكيافيك العاصمة الأيسلندية -التي تحتل المرتبة الخامسة عالميًّا-بريادتها البيئية. ولا شك في صدارتها عدة مدن، مثل: سنغافورة، ومدينة تورنتو الكندية، وهونج كونج، وأمستردام. وتعد الأخيرة ثالث أفضل مدينة للتكنولوجيا، وسادس أفضل مدينة للتواصل الدولي، وقد نالت المركز الثالث عشر لأفضل مدينة للتخطيط الحضري(5).

ومن واقع التجارب الدولية هناك خصائص رئيسة للمدن الذكية تتمثل فيما يلي:  تباين فلسفة المدن الذكية من مدينة إلى أخرى؛ فقد تبنت "بوسطن" على سبيل المثال مفهوم المدينة الذكية لتحقيق تقدم ملموس باتجاه تقليل الفوارق الاجتماعية، وتعزيز مرونة السكان في المناطق الحضرية، بينما تتطلع سنغافورة إلى التحول إلى مدينة ذكية في إطار استراتيجية الوطن الذكية والمدفوعات الإلكترونية لأغراض المدفوعات الآمنة واليسيرة لجعل المدينة صالحة للعيش وآمنة، بينما تقدم طوكيو ابتكارات جديدة لتحسين حياة الأفراد وتحقيق النمو المستدام. وعلى الرغم من تشارك بعض المدن الذكية في معيار عالمي، فإنها لا تخلو من اختلافات جوهرية تتصل بطبيعة الدور الذي تلعبه الشركات التكنولوجية في تطويرها، ودرجة مشاركة المجتمع في بنائها. وفي كل الأحوال، تظل التكنولوجيا المستخدمة على اختلاف تطبيقاتها وأنواعها ومظاهرها المختلفة قاسمًا مشتركًا فيها، على نحو يسهل تقديم الخدمات للمواطنين، ويزيد كفاءة إدارة الموارد، ويحد من التكاليف المهدرة، ويحسن جودة الحياة. أيضًا تفاوت اعتماد المدن الذكية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لإدارة الحياة اليومية؛ وتتفاوت بالتبعية درجة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وفقًا لحجم وطبيعة التفاعلات الذكية. كما تعكس النماذج سالفة الذكر الرابطة الوثيقة بين التنمية المستدامة من ناحية، والمدن الذكية والتنمية الرقمية من ناحية أخرى. ما يعني أن أي فشل لنموذج المدينة الذكية سيؤدي إلى خسارة فادحة لفرص تنموية حقيقية، يتزايد فيها ذكاء المدن، وتتزايد فيها جودة حياة مواطنيها على نحو يحقق أهداف التنمية المستدامة (6).

رابعًا- تجارب عربية:

 

شهدت الدول العربية نماذج رائدة إما بإنشاء مدن ذكية جديدة كلية، وإما تحويل بعض المدن القائمة بالفعل إلى أخرى ذكية. وعلى الرغم من تفاوت أسباب نشأة تلك المدن وسبل إدارتها والتحديات التي تواجهها، فيصعب تحديد عدد المدن الذكية في الدول العربية، ويرجع ذلك إلى تعدد تصنيفات المدن الذكية من ناحية، وتعدد الجهات المعنية برصدها وتصنيفها من ناحية أخرى؛ فتبعًا لمؤشر المدن الذكية 2020 الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية(7)، هناك 5 مدن ذكية عربية هي: أبو ظبي، ودبي، والرياض، والرباط، والقاهرة. ويعتمد التقرير في المقام الأول على درجة رضاء السكان عن خمسة جوانب رئيسة في مدينتهم، وهي: الصحة، والسلامة، والتنقل، والأنشطة، والحوكمة. 

أما تبعًا لتقرير المدن الذكية الصادر عن صندوق النقد العربي، يبلغ عدد المدن الذكية العربية 24 مدينة. ولكن يمكن القول عمومًا إن الدول العربية تواكب التوجه العالمي في هذا المجال؛ ومن أمثلة تلك المدن: مدينة سيدي عبد الله (الجزائرية)، والمنامة (البحرينية). وعلى صعيد تونس، هناك العاصمة تونس، وصفاقس الكبرى، وبنزرت المدينة الذكية. وبالمثل، تتعدد المدن المغربية، كما تهدف مصر إلى إنشاء عدد من المدن الذكية وتطويرها، مثل: برج العرب، والعاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة شرق بورسعيد وغيرها.

ويمكن الوقوف على عدد من التجارب العربية الرائدة في المدن الذكية على النحو التالي:

1.  أبو ظبي: تعد العاصمة الإماراتية نموذجًاعلى فعالية المبادرات الحكومية وجهود الحكومة الإلكترونية والحكومة الذكية، ومبادرات النقل الذاتي والبنية التحتية. وعليه، احتلت أبو ظبي المرتبة الأولى ضمن قائمة المدن الرائدة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا على صعيد تقييم استخدام التكنولوجيا. وقد بدأت إمارة أبو ظبي في التخطيط لمدينة "مصدر" منذ عام 2006. حيث تعد من أوائل المدن المستدامة في الشرق الأوسط التي تبنت البصمة الخضراء لاستيعاب التوسع الحضري السريع، وخفض استهلاك الطاقة والمياه، والحد من التلوث والنفايات. ويجسد تصميم المدينة مزيجًا بين فنون العمارة العربية التقليدية والتكنولوجيا العصرية(8). 

2. دبي: أدرجت حكومة دبي التقنية الذكية في العمل بالمؤسسات الحكومية منذ 14عامًا في إطار مشروع الحكومة الإلكترونية، ما سهل التحول إلى مدينة ذكية. ولدعم هذا التحول، أُصدرت المراسيم والتشريعات المطلوبة، وسهلت الإجراءات التجارية والمعاملات الإلكترونية، وعززت خدمات الدفع باستخدام الهواتف الذكية منذ عام 2008. كما دشنت مبادرة الحكومة المتنقلة في عام 2013. ويجدر الإشارة إلى تخطيط مدينة دبي الذكية لخدمات مثل: اصطفاف المركبات، ووجود أجهزة استشعار لقياس الضجيج والحرارة والرطوبة، وغير ذلك.

3. الرياض: تعد واحدة من المدن العالمية التي تساعد على تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030، وتمتاز بالتحول الرقمي الكبير والاعتماد على الذكاء الاصطناعي، بجانب السرعة والمرونة في معالجة التعاملات الحكومية الرقمية وخدمات الهوية الرقمية، وتقليل أوقات الانتظار. ولا شك في أهمية الدور الذي لعبته التطبيقات والمنصات الإلكترونية في رفع مؤشرات الصحة والسلامة للمدينة الذكية لا سيما في ظل جائحة كورونا. وجنبًا إلى جنب مع العاصمة السعودية، تتزايد أهمية مدينة الملك عبد الله، وهي مدينة سعودية مستحدثة ذات طابع اقتصادي، أعلن عن إنشائها عام 2005. وتقع على مساحة 173 كم² (66.8 ميلًا مربعًا) على طول ساحل البحر الأحمر. وتنقسم إلى ستة عناصر رئيسة هي: المنطقة الصناعية، والميناء البحري، والمناطق السكنية، ومنتجع البحر، والمدينة التعليمية، ومنطقة الأعمال المركزية. وقد اكتملت المرحلة الأولى من المدينة في عام 2010، في حين أن المدينة كلها سوف تكتمل بحلول عام 2030. ومن المتوقع أن تسهم المدينة في تنويع الاقتصاد المعتمد على النفط السعودي من خلال جلب الاستثمارات الأجنبية والمحلية المباشرة، بجانب خلق ما يصل إلى مليون فرصة عمل للشباب(9). 

4. الرباط: تمتاز الرباط بوجود موقع إلكتروني يسمح للمقيمين بمراقبة تلوث الهواء بشكل فعال، وشراء تذاكر العروض والمتاحف عبر الإنترنت، مما يسهل المشاركة في مختلف الأنشطة الثقافية. بالإضافة إلى إصدار خدمات التوقيع الإلكتروني على المستندات الإدارية. والجدير بالذكر أن المغرب يسعى في السنوات الأخيرة إلى تحويل 6 مدن إلى مدن ذكية، من بينها: الدار البيضاء، والرباط، وطنجة، ومراكش، وفاس، وإفران.

5. مصر: بدأت مصر التخطيط لدخول عصر المدن الذكية من خلال دمج هذا المفهوم بالمدن الجديدة التي يتم إنشاؤها ورصد موازنات استثمارية لدعم بنائها، ويأتي مشروع العاصمة الإدارية الجديدة  الذى بدأ عام 2017 على رأس المشروعات التي تهتم بها الحكومة المصرية للتحول نحو المدن الذكية وتبلغ مساحتها 170 ألف فدان، وتهدف الفكرة الأساسية للمشروع إلى إنشاء مدينة "بمواصفات عالمية" تعتمد على تقنيات ذكية منذ البداية، بداية من تخطيط المدينة وأحيائها مرورًا بالبنية الأساسية، وتخطيط الشوارع والمواصلات، وانتهاءً إلى الخدمات المقدمة بصورة مميكنة ومترابطة، أيضًا التركيز على استخدام الطاقة الشمسية، وتقليل استخدام الطاقة الكهربائية، وهذا ما تم مراعاته في محطات الطاقة وفي البنية الأساسية والمرافق العامة. وهي نقطة مشتركة مع الكثير من المدن الذكية في العالم. وفى الحقيقة، إن مشروع العاصمة الجديدة ليس مشروعًا استثماريًّا فحسب، وإنما هو مشروع قومي بالأساس تتنوع عوائده الاقتصادية من توسيع الحيز العمراني والإسكاني، إلى توفير فرص عمل للشباب، ومراعاة البعد البيئي ومواكبة أحدث التطورات التقنية والعلمية بما يمثل قيمة مضافة نوعية للأجيال الحالية والمقبلة(10).

ومن التجارب السابقة يتضح أن الدول العربية اتجهت إلى التحول نحو المدن الذكية في إطار سعيها لتلبية حاجات مواطنيها والتصدي للضغوط الناتجة عن تزايد معدلات التحضر، فضلًا عن العلاقة بين المدن الذكية والازدهار والنمو الاقتصادي بالاعتماد على التقنيات المتقدمة لرفع الكفاءة والإنتاجية وتحسين الحوكمة. أيضًا نبعت بعض المدن العربية الذكية نتيجة الأزمات السكانية. كما يتضح تفاوت الوضع الاقتصادي في المدن العربية، بحيث يتميّز كل نوع بقدرات مالية واقتصادية معينة، مع الأخذ في الاعتبار أن التحول إلى مدينة ذكية يتحقق من خلال النشاط الاقتصادي بالأساس(11).

خامسًا- التحديات والفرص:

يطرح التطور التكنولوجي الهائل والتحديث السريع خيارات واسعة أمام البشرية فى حركة تطوير المدن التي لم تتوقف عند نمط ما، لكنها تشهد تغيرات هائلة نابعة من التكنولوجيا، ولذا فإن مزيدًا من تصاعد تأثير دور المدن على المستوى الدولي هو أمر متوقع خلال السنوات القليلة المقبلة، لدرجة أن كثيرين من المتخصصين الاقتصاديين والاجتماعيين يرشحون العديد من المدن لأن تصبح بمنزلة مراكز لقيادة العالم إلى جوار الدول. ومما لا شك فيه أن المدن الذكية تعد بيئة خصبة لجذب العقول المبتكِرَة، والمبدعين ورواد التفكير في مجال التكنولوجيا حول العالم؛ لأنها لا تضع حدودًا للخيال؛ وهو ما سوف يعطيها ثقلًا على المدى البعيد ويحولها إلى مصانع تحويل الخيال العلمي إلى واقع معاش.

وعلى الرغم من جميع  الإيجابيات التي يمكن إيجازها في رفع كفاءة إدارة المدن في شتى المجالات ربما لدرجة قد تتجاوز حاجات السكان ومتطلباتهم، فإن ثمة تحديات وتخوفات قد تنجم عن مثل هذا النمو والتحديث المتسارع؛ لأنه قد يربك المواطن غير المعتاد على التكنولوجيا المتقدمة، بل إن الآلية التكنولوجية حينما تدخل مناحي الحياة كلها، فربما تقدم تحديًا مجتمعيًّا أكثر خطورة إذا انفصلت في سرعتها ومنطقها عن العوامل المجتمعية وعن حدود الإدراك البشري، فقد يُصَاب قطاع من المواطنين بالعزلة عن الآخرين  وقد يُصَاب آخرون بالاغتراب أو الارتباط الوثيق بالأشياء لدرجة لا يمكن الفكاك منها؛ مما يعني أننا قد نكون أمام نموذجين متطرفين اجتماعيًّا، أولهما لا يستطيع استيعاب التغيرات السريعة، وثانيهما يلتصق بها لدرجة عدم الانفصال الوجداني. وبالتالي فإن التحول إلى مفهوم "المجتمعات الذكية" لا يقتصر على تطبيق التقنيات فحسب، وإنما يرتبط بالمنظومة القيمية.

تواجه المدن الذكية مجموعة من التحديات العامة المشتركة عالميًّا، مثل(12): غياب تعريف جامع مانع للمدينة الذكية للإحاطة بالسمات العامة لهذه المدن، والمؤشرات الأساسية لقياسها، التي تجعلها جزءًا من الاستراتيجية الوطنية الشاملة ومتوافقة مع الواقع المحلي، وضعف البنى التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات والتي تشكل عقبة أمام تطبيقات المدن الذكية، هذا إلى جانب التكلفة الباهظة، ومحدودية الموارد الاقتصادية، ونقص الموارد البشرية المؤهلة لتطوير واستثمار تقنية المعلومات والاتصالات، فضلًا عن غياب إطار تشريعي يسهم في ضبط تطبيقات المدينة الذكية، ومشكلات انتهاك الخصوصية.

بدا واضحًا أن المدن الذكية أصبحت طرازًا لما يجب أن تبدو عليه مدن المستقبل، ومرادفة للتنمية الحضرية حيث تسعى إلى الاستثمار في التكنولوجيا لتحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز التقدم الاجتماعي، وتحسين الظروف البيئية، وبالتالي فإن عملية إنشاء المدن الذكية تتطلَّب توفر بعض الشروط الأساسية أهمها ما يلي:

1. الحكم الرشيد: بمعنى توفر نظام إداري يتَّسم بالرشادة في إدارة الموارد المخصصة لبناء المُدُن الذَّكيَّة وتوجيهها في الأغراض الحقيقية المخصصة لها. من حيث نوعية الخدمات المقدمة للسكان، ومدى جودتها، ودورها في خدمة القطاعات المختلفة بالدولة، وعلاقتها بالحكومة المركزية، وبالمُدُن الأخرى داخل الدولة، فضلًا عن حُسن الموارد الاقتصادية.

2. المسؤولية الاجتماعية: تظهر المسؤولية الاجتماعية للشركات في القيام بعمليات التطوير والتحديث اللازمة للمدينة بما يتوفر مع حاجات السكان المحليين، وتقديم أفكار ومشروعات تُساعد في تحسين جودة الحياة داخل المدينة.

3. العنصر البشري الذَّكي: تتطلَّب المدينة الذَّكيَّة توفر عنصر بشري متعلم وقادر على توظيف التكنولوجيا الحديثة، واستخدامها، بل وتطويرها، وتحسينها، كما أنها تستقطب الأذكياء في المجالات المختلفة، وخصوصًا المجالات الاقتصادية، سواء أكانوا من داخل الدولة، أم من خارجها.

4. تطوير البنية الأساسية للاتصالات، وبناء شبكة متطورة وعالية الاعتمادية؛ لتقديم خدمات متميزة وبتكلفة مناسبة حتى تتوافق مع متطلبات المدن الذكية التي ترسي نهجًا مستدامًا يلبي حاجات الوقت الحاضر دون التضحية بالقدرة على تلبية حاجات الأجيال القادمة.

google-playkhamsatmostaqltradent