recent
أخبار ساخنة

الاستهلاك الثقافي: تقديم الذات في الحياة اليومية وعوائده الاجتماعية والاقتصادية


الاستهلاك الثقافي:

تقديم الذات في الحياة اليومية وعوائده الاجتماعية والاقتصادية


بقلم: الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الشقير

أستاذ علم الاجتماع  - المملكة العربية السعودية

 اهتم علماء الاجتماع بظاهرة حسن تقديم الإنسان لذاته في الحياة اليومية، بوصفها مصدرًا للمكانة الاجتماعية والاقتصادية، وهي تعني ثقافة الحياة اليومية، واختيارات الإنسان أو تفضيلاته في أساليب الملبس واللغة والتواصل مع الآخرين، أو في زيارات المتاحف والمعارض الثقافية والفنية الأصيلة وتذوقها. ويُطلق على ذلك «الاستهلاك الثقافي»؛ وتكون نتائجها تبعًا لعوائدها الاجتماعية والاقتصادية. 

ولعلماء الاجتماع جهود في دراسة الثقافة بوصفها قوة، ولكل عالم منظور مختلف عن الآخر، ومن أبرز الدراسات حول هذا الموضوع ما يلي:

دراسة «ماكس فيبر» عن «الجماعة والمكانة»؛ حيث وصف الجماعة بأنهم أشخاص مرتبطون ببعضهم بمكانة ثقافية مشتركة، تمثل هويتهم من حيث اتفاق القيم، والأذواق، والجماليات، وأنماط اللباس، واللغة المستخدمة، وأساليب الترفيه، وهم يعدونها مصدرًا لتميزهم وفخرهم.

كما يركز «إميل دوركايم» في دراسته عن «قداسة الثقافة الراقية»، على ثقافة نخب المجتمع؛ إذ يرى أن ثقافة طبقة النخبة لها خاصية مقدسة، وهي تختلف عن ثقافة الطبقة الوسطى المستخدمة في الحياة اليومية؛ لذلك تحافظ على قدسية ثقافتها باستخدام الرموز الثقافية، كالملبس واللغة، التي تميزها عن غيرها، وتمنحها السلطة الاجتماعية التي تفرضها على الواقع.

لذلك نلحظ أن بعض أبناء الطبقات الوسطى المتطلعين للتميز، يستخدمون الرموز الثقافية للنخب، في محاولة للمحاكاة، وطلب الاعتراف الاجتماعي بهم.

وفي هذا السياق، تأتي دراسة «ثورشتاين فبلن» عن «الاستهلاك المظهري»، التي أكد فيها انغماس النخب وطبقة الصفوة في التعبير الدائم عن مكانتهم من خلال التباهي بالثروة، وتبذير السلع، واستخدام المنتجعات للترفيه، وشراء الملابس الثمينة، وكل ما يمكن أن يدل على ثراء صاحبها، وعلو مكانته الاجتماعية والاقتصادية.

وتعد دراسة «جاري بيكر» عن «رأس المال البشري» من أشهر الدراسات التي تُعنى بالاستثمار في مهارات الإنسان، ويقصد به: المهارات والمعلومات التي تساعد الفرد على الترقي الاجتماعي، وزيادة فرصه في سوق العمل؛ وذلك لأن رأس المال البشري إنتاجي من الناحية الاقتصادية بشكل مباشر، وغير مباشر من الناحية الاجتماعية؛ لأنه يتطلب بناء منظومة من الثقة مع العملاء.

أما دراسة «بيير بورديو» عن «رأس المال الثقافي» فهي تعد أحدث الدراسات وأكثرها تفصيلًا، حيث وزّع رأس المال الثقافي ما بين الشهادات ومكانة الأسرة التاريخية والمهارات والمواهب الشخصية، إضافة إلى الاهتمام بالمظهر في الملبس وطريقة المشي واللغة وأسلوب الأكل، وتطوير الاهتمامات الراقية، مثل: اقتناء الكتب، وتذوق الفن، وزيارة المتاحف، وغيرها، ويرى أن استهلاك الثقافة الراقية يعد من مصادر الصعود الاجتماعي والاقتصادي.

الاستهلاك الثقافي

يرى «بورديو» أن الاستهلاك الثقافي بديل للاستهلاك المظهري، وأن السوق الثقافية مليئة بالسلع الثقافية المتباينة أيضًا؛ حيث يوجد المسرح العريق ومسرح الشوارع، والموسيقى الأصيلة وموسيقى الجاز، وكل شيء ثقافي يمكن للإنسان أن يستهلك منه ما يعزز مكانته أو يخفضها. ويرى أن استهلاك الإنسان في المظهريات مثل اقتناء الماركات العالمية، ومتابعة الموضة، والشراء الباذخ لكل ما يدل على الثراء، يربط المكانة الاجتماعية الرفيعة بمعيار واحد وهو امتلاك المال، في حين أن استهلاك الإنسان في الثقافة مثل اللغة المهذبة، والثقة والقدرة على التعبير، والملبس المتناسق، والنظافة الدائمة للملبس والجسد ونحو ذلك، تربط المكانة الاجتماعية الرفيعة بمعيار الثقافة، وهذا الاستهلاك الاستثماري على المدى الطويل.

وتركز أكثر الدراسات السابقة على أن حسن تقديم الذات في الحياة اليومية يعد ثقافة، وأن لهذه الثقافة استهلاكًا، وأن عوائدها كبيرة وخطيرة، فهي التي تبني المجتمع وتحدد مستوياته الثقافية، وتمنح السيطرة الاجتماعية، وتساعد الطبقات الوسطى على نجاح المقابلات الشخصية في الوظائف أو الزواج، وبالتالي فإن لها عوائد استراتيجية للأشخاص من حيث تحقيق المصالح.

قيم الاستهلاك الثقافي

يمكن التقاط قيم الاستهلاك الثقافي على ثلاثة مستويات، كالتالي: 

الأول: حسن تقديم الذات في الحياة اليومية، من خلال مئات من الممارسات السلوكية البسيطة، والتي قد تؤثر بشكل كبير في نظرة الآخرين للشخص، إذ كلما ارتفع مستوى الشخص اجتماعيًّا زادت ذائقته في تقييم سلوك الآخرين، واعتنى أكثر بالتفاصيل التي لا يؤبه لها.

الثاني: القيم الأخلاقية في الحياة اليومية، مثل الصدق والوفاء والكرم والمروءة.

الثالث: تذوق الفنون والآداب وزيارات المتاحف والمسارح والمعارض الثقافية والفنية، وارتياد الحدائق العامة.

التغير الاجتماعي في التفاصيل الصغيرة

يحدث التغير الاجتماعي غالبًا من تراكم التفاصيل الصغيرة في ممارسات الحياة اليومية، ويلحظ الإنسان وجود تغير في آخر مراحل التغير، في حين يلحظه المتخصص وهو بذرة فيراقب نموها؛ وذلك لأن المجتمع يبني الإنسان، وفي الوقت نفسه فإن سلوك الإنسان المتراكم يبني المجتمع أيضًا، فالعلاقة تبادلية، وتوجد ظاهرتان تؤثران في التغير الاجتماعي، وهما:

الأولى: انخفاض مستوى الطبقات الدنيا يعزز نمو الطبقات العليا الوهمية

إذ توجد إشكالية اجتماعية كبيرة عند اختلال منظومة قيم الاستهلاك الثقافي، وذلك أنه كلما انخفض مستوى الشخص الثقافي زاد تقديره لأصحاب الاستهلاك المظهري، وكلما زاد تقديره لهم، تقبَّل منهم الكذب وانعدام المروءة، مراعاةً لمصلحة قد يحصل عليها، ويمنح نفسه تبريرًا بأنهم أشخاص سياسيون أو لديهم رؤية أعمق من رؤيته، ويكمن الخطر في أن هؤلاء يكرسون فكرة تقبُّل ممارسة السلطة الاجتماعية عليهم، أو أنهم ينتمون إلى بيئة تنتج فكرة القابلية للخضوع، وباقي المجتمع يعزز سمات الخضوع في أفراده لعوائده الاقتصادية السريعة، ومن ثمَّ يبنون الواقع الاجتماعي دون وعي منهم. وهذا أحد أهم أسباب التحولات الاجتماعية وانحلال القيم التي يلحظها الإنسان العادي، ويتحدث عنها الناس، ولا يستطيعون تشخيصها.

الثانية: أزمة الإنسان العادي في القدرة على النقد والتقييم الاجتماعي

ويتمثل في بعد المسافة بين ما يقوله الناس وما يمارسونه فعلًا، وهذه من أهم وأكبر القيم انتشارًا، فالإنسان العادي يسهل خداعه ذهنيًّا بوعود، وتزويده بعبارات براقة تحسِّن مزاجه، ولكنها لا تحسِّن واقعه، إذ نجد أن من يخرج للناس عبر وسائل الإعلام أو تطبيقات التواصل الاجتماعي أو مجالس الوعظ، يتقمصون المظهر المثالي، الذي لا يعكس شخصياتهم في الواقع، وأكثر من يُمارَس عليه هذه الخدع الذهنية هم كثير من أصحاب تطوير الذات والوعاظ. وإذا حاول أحد أن يوقظ غفلته فإنه يدافع عن واقعه بأن أقوالهم صحيحة ولا غبار عليها، وينسى أن من يلقِّنه الكلام الحسن لا يستطيع الالتزام به إلا لحظيًّا في مناسبات معينة، وأن حياته تختلف عما يقوله.

تصنيف الاستهلاك الثقافي

جمعْت عشرات المواقف الاجتماعية الصغيرة في محاولة لجمْع مفردات سلوك الإنسان العادي، وتصنيفها في جدول إلى:

رأس مال ثقافي مرتفع، وهو السلوك المرغوب في الوصول إليه.

ورأس مال ثقافي متوسط، وهو السلوك الذي اعتاده الإنسان من بيئته.

ورأس مال ثقافي منخفض، وهو السلوك غير المرغوب فيه، ويتعرض صاحبه إلى التهميش الاجتماعي، وتقل حظوظه في النجاح في الحياة.

والهدف من الجدول هو نقل ثلاثة أشكال من السلوك الواحد وتصنيفها، وهذا يعد اتجاهًا جديدًا ومختلفًا عن الكتب والمحاضرات التي تحث على الالتزام بالسلوك الجيد، دون تحديد ماهيته أو مستوياته، ويمتاز بأنه يتيح للشخص أن يقيّم نفسه والآخرين من خلاله.

صنَّفْت المواقف الاجتماعية التي جمعْتها إلى: سلوك ديني، وأسري، واقتصادي، وهوايات واهتمامات، ولغوي، ونظرًا لكثرتها أمام المساحة المحدودة للنشر، فقد اكتفيت بنشر رأس المال اللغوي وما يتقاطع معه، ويقصد به السلوك المصاحب للغة المنطوقة ولغة الجسد.

يُلاحظ أن هذه المؤشرات تختلف تطبيقاتها من مجتمع لآخر، ولذلك حرصْت على التركيز على قواعد السلوك وآدابه المتعارف عليها دوليًّا قدر المستطاع، وقد يتقاطع معها سلوكيات محلية بحسب السياق، كما أنها ذكورية، نظرًا لوجود نظام من قواعد السلوك النسائي مختلف كثيرًا عن الرجالي.

يمثل الجدول أدناه مجموعة من قواعد السلوك وآدابه التي يمارسها الإنسان في الحياة اليومية، بوصفها ثروات ثقافية متاحة في السوق الثقافية في المجتمع، ويوجد بها كثير من الخيارات المتناقضة، ولكن مكانة الإنسان الاجتماعية يحددها اختياره وتفضيلاته، وهي تعكس حجم الاستثمار في الاستهلاك الثقافي؛ بحيث إنه كلما زادت نقاط رأس المال الثقافي، زادت حظوظه في الاستهلاك الثقافي التي تجعل منها صناعة ثقافية، تعزز رأس ماله الاجتماعي، المتمثل في علاقات ناجحة ومتميزة ومنتقاة، بالفرص الوظيفية والاستثمار المالي.

وقد جمعْت قواعد السلوك وآدابه في مجال اللغة ولغة الجسد من ملاحظاتي الميدانية على مدى سنوات، ومن متابعتي لوسائل التواصل الاجتماعي، وبعض وسائل الإعلام، وكتب آداب السلوك وقواعده، ومن مناقشاتي الطويلة مع الشباب والباحثين، وقسَّمْتها إلى ثلاثة مستويات، هي: مرتفعة ومتوسطة ومنخفضة. ونتيجة التقييم هي حصيلة ما يمكن أن يجنيه الإنسان من أرباح ومكاسب اجتماعية وتعليمية وثقافية في المجتمع، من خلال حسن تقديم ذاته في الحياة اليومية.

يشير رأس المال الثقافي المرتفع إلى السلوك المرغوب في الوصول إليه بوصفه جماليات وثقافة مجتمع، ويشير رأس المال الثقافي المتوسط إلى السلوك المعتاد في الحياة اليومية، ويعد مقبولًا، ويشير رأس المال الثقافي المنخفض إلى السلوك غير المرغوب فيه، ويخالف القيم المطلوب الوصول إليها. والاحتكام إلى قواعد السلوك وآدابه، هو الذي يحدد المعايير والمؤشرات الدالة على السلوكيات، ولكن نظرًا لندرة الكتابات العربية في هذا الموضوع، فقد تُركت للتقديرات الشخصية.

لم تصنَّف قواعد السلوك وآدابه بشكل صارم، وإنما صُنِّفت تقديريًّا نظرًا لتداخل بعضها، وإمكانية قراءة بعضها الآخر من زوايا مختلفة؛ وذلك بسبب أن التعليم لا يقدِّم مقررات في قواعد السلوك وآدابه، ولا مقررات في الصحة العامة، إضافةً إلى التغير الكبير في مصادر تلقي قواعد السلوك وآدابه للأفراد وللأسر، ما بين الأسرة والمدرسة وتطبيقات التواصل ووسائل الإعلام والأحزاب، وبالتالي يوجد شح كبير في تعلم قواعد السلوك لدى الإنسان العادي.

وختامًا، تؤكد كثير من الدراسات ويثبت الواقع في الحياة وفي العمل، أن الاستثمار في ثقافة الإنسان، وتطوير مهاراته وحسن تقديم ذاته في الحياة اليومية، يعد هو الاستثمار الأمثل للألفية الثالثة، ومخرجاته أسرع من مخرجات التعليم والتدريب وأكثر فاعلية؛ وذلك لعوائدها الاجتماعية والاقتصادية على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.

google-playkhamsatmostaqltradent