recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الصحة العامة في مصر


الصحة العامة في مصر

 

 د. علاء عيد

رئيس قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة والسكان


لقد كانت وما زالت صحة الإنسان جزءًا لا يتجزأ من قدرته على البقاء والصمود منذ بدء الخليقة، ولعل السؤال عن الصحة هو من العبارات المتعارف عليها عالميًّا كوسيلة للسلام والتعارف، وهو ما يؤكد ارتباط صحة الأفراد بمجتمعاتهم وثقافاتهم على اختلافها وتنوعها.

ولقد أولى المصريون اهتمامًا كبيرًا بالصحة منذ آلاف السنين، ولعل الحضارة المصرية القديمة خير برهان على أن المصري القديم لم يكن فقط ملمًا بعلوم الطب والجراحات، بل كان على دراية كبيرة بصحة الأرض والنبات والحيوان، اعترافًا من مصر القديمة بأن صحة الإنسان هي جزء من صحة بيئته ومجتمعه.

ولذلك، فإن الصحة العامة يمكن تعريفها بأنها، علم مكافحة والوقاية من الأمراض، وتحسين جودة الحياة من خلال الجهود المجتمعية والمؤسسية الممنهجة لتحسين الصحة بشكل عام على مستويات الأفراد والمجتمعات.

وتعد مصر الحديثة من أوائل الدول في المنطقة التي تبنّت مشروعات وحملات قومية تهدف إلى تحسين الصحة العامة، مثل، التطعيم الإجباري ضد الأمراض الوبائية، واتخاذ إجراءات احترازية شاملة ضد التفشيات الوبائية، وحماية الحدود المصرية من خلال آليات الحجر الصحي، وتشهد قوانين الحجر الصحي والتطعيمات التي تم سنّها منذ الثلاثينيات من القرن الماضي على ذلك، ولا تزال الدولة المصرية عاكفة على تحقيق صحة أفضل لكل المصريين من خلال العديد من البرامج والمشروعات والإجراءات، التي يمكن إلقاء الضوء على أبرزها فيما يلي.

مكافحة والوقاية من الأمراض المعدية والوبائية:

يترصد قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة والسكان 41 مرضًا مختلفًا من ذوي الأولوية القومية للصحة العامة من خلال آليات إبلاغ مركزية وطرفية مختلفة، وتحت آليات للإشراف والتدريب المستمر للعاملين في هذا المجال في جميع المحافظات، وعلى المستويات كافة، كما أنشأ قطاع الطب الوقائي مراكز مخصصة لترصُّد عدد من الأمراض بعينها، مثل، الأمراض التنفسية الحادة، والالتهابات الكبدية، والأنفلونزا الموسمية بالتعاون مع عدة جهات دولية، وتعد آليات الرصد المبكر والترصُّد من أدوات قطاع الطب الوقائي للتأهب والاستعداد للطوارئ، المرتبطة بالأمراض المعدية، مثل، التفشيات الوبائية. كما تولي وزارة الصحة والسكان اهتمامًا بالأمراض المتوطنة والطفيلية، من خلال حملات التجريع الجماعي (جرعات)، سواء للبلهارسيا، والتي اقتربت مصر من القضاء عليها في البؤر المصابة، أو الطفيليات المعوية في المدارس، كما تم إعلان خلو مصر من مرض الفيلاريا من قِبل منظمة الصحة العالمية، وقريبًا سيتم إعلان مصر خالية من مرض الملاريا.


البرنامج الموسع للتطعيمات:

يقوم البرنامج الموسع للتطعيمات بالتحصين ضد 10 أمراض من الأمراض المستهدَفة بالتطعيم وذات الأولوية المحلية والعالمية، ويسعى قطاع الطب الوقائي إلى إضافة تطعيمات جديدة في السنوات المقبلة، يأتي على رأسها التحصين ضد المكورات الرئوية، وضد فيروس الروتا، وذلك ضمن آلية علمية تعتمد على تقييم المخاطر وتحديد الأولويات القومية في ضوء البروتوكولات المتبعة دوليًا. وقد استطاعت مصر القضاء على عدد من الأمراض المستهدَفة بالتطعيم مثل، شلل الأطفال، والحد من التيتانوس الوليدي، كما لم يتم تسجيل أية حالات من الدفتيريا، أو السعال الديكي منذ 1998 و2002. كما تتميز مصر بارتفاع نسب تغطية التطعيمات على نطاق جغرافي واسع بشهادة عدد من المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال.

الرقابة على المياه:

إن صحة الماء، هي ركن أساسي من أركان الصحة العامة، ولذلك فإن آليات مراقبة مياه الشرب والصرف هي أولوية صحية تقوم بها وزارة الصحة من خلال قطاع الطب الوقائي، وبالتعاون متعدد القطاعات مع عدد من مؤسسات الدولة المعنية؛ حيث يتم أخذ عينات دورية من شبكات مياه الشرب وطرد المحطات والمآخذ، وذلك للتأكد من جودة مياه الشرب، كما يتم المرور الدوري الميداني على محطات تنقية مياه الشرب، ومتابعة مراحل التنقية، واستخدام أجهزة لرصد ملوثات المياه، ومراقبة جودتها للمعايير الصحية العالمية، بالإضافة أيضًا لمراقبة جودة المياه الجوفية، والتصريح للشركات بحفر أو استخدام آبار للمياه الجوفية تبعًا للبروتوكولات العالمية والمحلية التي تضمن جودة تلك المياه للمستهلك.

جودة الهواء:

ترتبط جودة الهواء ارتباطًا وثيقًا بعدد من الأمراض التنفسية والقلبية، بالإضافة إلى أن انخفاض جودة الهواء لها تأثير سلبي على صحة الإنسان النفسية والعقلية، خصوصًا إن كان هذا التأثير على المدى الطويل، مما يؤثر في النهاية على إنتاجية الأفراد والدولة، ولذلك تعمل وزارة الصحة والسكان على ترصُّد جودة الهواء من خلال عدد كبير من مراكز الرصد البيئي المنتشرة في جميع أنحاء الجمهورية والتابعة لقطاع الطب الوقائي، وتقوم بمشاركة النتائج مع الجهات المعنية حرصًا على اتخاذ ما يلزم نحو تحسين جودة الهواء بالأماكن الأكثر خطورة، ودق جرس الإنذار في حالة تعدي ملوثات الهواء النسب المسموح بها عالميًا ومحليًا.

سلامة الغذاء:

إن آليات المراقبة على الأغذية هي ضمان للوقاية من عدد كبير من الأمراض المعوية الخطيرة، والتسممات الغذائية بدرجاتها المختلفة، والتي يعد عدد منها قاتلًا، مثل، التسمم الممباري Botulism، ولذلك تشن وزارة الصحة والسكان من خلال قطاع الطب الوقائي حملات دورية للمراقبة على الأغذية، ومتداولي الأغذية، لضمان تطابق المنشآت والأفراد العاملين في مجال تداول وصناعة الأغذية للمواصفات العالمية والمحلية لسلامة الغذاء، كذلك يتم سحب عينات من المواد الغذائية المختلفة وإرسالها للتحليل للتأكد من صلاحيتها، كما يتم اتخاذ اللازم حيال تقصي أية حالات تسمم غذائي لتحديد سببها، واتخاذ الإجراءات اللازمة. وتجدر الإشارة إلى أن اهتمام الدولة المصرية بالتوسع في مراقبة سلامة الغذاء قد أدى إلى إنشاء هيئة سلامة الغذاء، التي من شأنها الانتقال بآليات مراقبة وسلامة الأغذية إلى المستوى العالمي.

التغيرات المناخية:

تعد قضية المناخ هي قضية القرن الأهم؛ حيث تؤثر التداعيات الخطيرة للتغيرات المناخية على صحة الأفراد والمجتمعات بشكل خطير، بدءًا بطوارئ الإنهاك الحراري ومضاعفاته، وانتشار نواقل الأمراض كالبعوض على نطاق جغرافي أوسع، ونهايةً بالكوارث البيئية الخطيرة، مثل: الفيضانات، وحرائق الغابات، وغيرهما من الكوارث التي أصبحت تهدد العالم بأسره، وتعد بيئة مثالية لانتشار الأوبئة وتفشي الأمراض. وبما أن مصر من الدول المهددة بتداعيات التغيرات المناخية وبالتحديد على مستويات الأمن المائي، فإن الاهتمام بقضية المناخ هو اهتمام بالصحة العامة لكل المصريين وللأجيال القادمة التي تستحق أن تحظى بفرص عادلة في الماء والغذاء والصحة.

صحة الطفل:

تبدأ صحة الطفل بصحة الأم والكشف المبكر للزواج، وهو ما تقوم به وزارة الصحة منذ عقود، ولقد أبدت الدولة المصرية مؤخرًا اهتمامًا موسعًا بالكشف المبكر للزواج والأمراض الوراثية على نطاق أكبر، إيمانًا بأن صحة الطفل تبدأ بأبويه، كما أن متابعة الأم أثناء فترة الحمل هي ركن مهم لولادة طفل سليم، وفي سبيل استمرار الحفاظ على مصر خالية من عدد من الأمراض المرتبطة بوفيات الرضع، مثل، التيتانوس الوليدي، يتم تطعيم الأمهات خلال فترة الحمل ضمن بروتوكول رعاية الحوامل في مراكز الرعاية الأولية، والذى يشمل أيضًا الكشف الإكلينيكي الدوري، ومتابعة نمو الجنين، والولادة الآمنة، والرضاعة الطبيعية ..وغيرها. كما أن الكشف المبكر عن اعتلال الغدة الدرقية، وأمراض التمثيل الغذائي، مثل "الفينيل كيتونيوريا"، وضعف السمع، من أهم آليات حماية الأطفال منذ اليوم الأول، بالإضافة إلى التطعيمات الروتينية، ومتابعة النمو في مراكز الرعاية الأولية بجميع أنحاء الجمهورية. كما تجدر الإشارة إلى أن صحة أطفال المدارس من أهم محاور صحة الطفل، وتشمل بيئة المدرسة الصحية، والتغذية السليمة، والكشف الدوري في بداية العام الدراسي، والتطعيمات، والوقاية من الطفيليات المعوية.. وغيرها.

صحة المرأة:

تبنّت الدولة المصرية عددًا من المبادرات الخاصة بصحة المرأة، مثل: الكشف المبكر عن الأورام، وعلاج الأورام المكتشفة على الفور، كما أن الاهتمام بصحة الفتيات سواء في سن المراهقة والبلوغ هو من البرامج المهمة في الصحة المدرسية، وصحة الريف، ويقوم به عدد كبير من مقدمي الخدمات الصحية، سواء من الأطباء أو المثقفين الصحيين والرائدات الريفيات. أيضًا خدمات تنظيم الأسرة المتوافرة في جميع أنحاء الجمهورية، والتي تسعى للتوعية بأهمية فترات التباعد بين الولادات لاستعادة صحة الأم، والتركيز على صحة الطفل، فضلًا عن التوعية بأهمية تنظيم الأسرة؛ بهدف تحقيق رفاهية الأسرة المصرية في نطاق عدد محدود من الأطفال، لضمان رعايتهم على المستوى الأمثل، وتحقيق أهداف التنمية السكانية والاقتصادية المستدامة.

صحة المسنين:

إن الاهتمام بصحة المسنين وخلق خدمات صديقة للمسنين في كل المرافق هو ركن أساسي للصحة العامة، وتحسين جودة الحياة، ورفع متوسط الأعمار لدى المصريين، والذي يعد من أهم المؤشرات الصحية عالميًا، وتعد الرقابة على مراكز رعاية المسنين، وضمان تسهيل أي إجراءات صحية مرتبطة بهذه الفئة المدرجة تحت الفئات الأكثر احتياجًا للرعاية، هو ضمان لصحة المجتمع والبنيان الأسري المصري.

مكافحة والوقاية من الأمراض غير السارية:

تبنَّت الدولة المصرية عددًا من المبادرات الرئاسية للحفاظ على صحة المصريين من خلال الكشف عن الأمراض غير السارية، مثل: ارتفاع ضغط الدم، والسكري، وغيرهما من الأمراض، وذلك إلى جانب المبادرات الرئاسية التي تهدف إلى تحسين جودة الحياة، مثل، التشجيع على التغذية الصحية، وممارسة الرياضة بشكل دوري، وتبنِّي عادات صحية من شأنها تحسين صحة المصريين على المدى البعيد. إضافة لذلك، فإن البرامج الخاصة بمكافحة التدخين، ومتابعة مصر لتنفيذ بنود الاتفاقية الإطارية لمكافحة التبغ، من شأنها مكافحة التدخين، خصوصًا بين الشباب، والأطفال في سن المدارس.

الصحة النفسية:

تحتاج مصر إلى إلقاء المزيد من الضوء على الصحة النفسية والاجتماعية للمصريين، من خلال دراسات علمية لأسباب الظواهر النفسية والاجتماعية الغريبة على المجتمع المصري، مثل، الإدمان، والانتحار، والتنمر وغيرها من الظواهر، باعتبار أن الصحة النفسية هي جزء أساسي من صحة الإنسان والمجتمع.

إجراءات التأهب والاستجابة للطوارئ الصحية:

إن مؤسسات الحجر الصحي المصرية هي بالتأكيد الأقدم في المنطقة بأسرها؛ فقد آمنت مصر منذ القدم بحماية حدودها ليس فقط من الأعداء ولكن أيضًا من الأمراض، حيث إن الحجر الصحي هو خط الدفاع الصحي الأول عبر ارتباطه بنقاط الدخول إلى مصر؛ حيث يعمل على منع تسرب الأمراض والأوبئة، ويعد الحجر الصحي ممثِّل سلطة الصحة العامة في نقاط الدخول، والمُعينة من قِبل الدولة؛ لتطبيق اللوائح الصحية الدولية، وقانون الحجر الصحي بجميع منافذ الدخول الجوية والبحرية والبرية، هذا ويتابع قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة والسكان إجراءات الحجر الصحي لدى منافذ الدخول الجوية والبرية والبحرية في أنحاء الجمهورية كافة؛ لضمان خلو الوافدين من الأمراض ذات الأولوية للصحة العامة، وضمان تطبيق ما قررته اللوائح الصحية الدولية.
 
وتجدر الإشارة إلى أن وجود خطط للطوارئ الصحية بشكل عام، ولعدد من الطوارئ الصحية كالتفشيات الوبائية بالتحديد، هو إجراء متبع لضمان الصحة العامة في كل دول العالم المتقدم، وفي هذا الإطار، يوجد لدى مصر عدد من الخطط المحدَّثة لمواجهة الكوارث، يأتي على رأسها مواجهة جائحة الأنفلونزا، وغيرها من الأمراض التنفسية سريعة الانتشار. وتعد قدرة مصر على الـتأهب والاستجابة الصحية السريعة من أبرز العوامل والآليات التي ساهمت في عبور مصر لأزمة تفشى جائحة فيروس كورونا المستجد منذ بدايتها، وقدرة مصر على الاستمرار في تقديم الخدمات الصحية المختلفة بما فيها التطعيمات الروتينية القومية، دون التأثر بتلك الأزمة العالمية، كما حدث في عدد كبير من دول العالم.

صحة المهاجرين:

تولي الدولة المصرية اهتمامًا كبيرًا بضيوف مصر من المهاجرين واللاجئين، وتضمن لهم الحصول على خدمات الصحة العامة المختلفة كالتطعيمات، وخدمات الرعاية العاجلة، بالإضافة إلى إدراج المهاجرين واللاجئين على قائمة المستفيدين من المبادرات الرئاسية للصحة العامة؛ مثل 100 مليون صحة.

الطريق إلى المستقبل:

الوقاية دائمًا خير من العلاج، لذلك يعد الاهتمام بقضايا الصحة العامة أولوية قومية؛ من أجل ضمان صحة أفضل للمصريين، ويأتي على رأس البرامج الوقائية دعم البرنامج الموسع للتطعيمات، وإدراج تطعيمات جديدة، ودعم خطط الطوارئ الصحية، ومراكز الرصد المبكر، وصحة البيئة، وغيرها. وفي ضوء ارتباط قضية المناخ وتداعيات التغيرات المناخية الوثيق بالصحة، لذلك لابد من إدراج الصحة كشريك في صناعة القرارات الخاصة بتلك القضية العالمية.

إن التركيز على مفهوم صحة واحدة والتعاون متعدد القطاعات فيما يخص صحة البيئة، وسلامة الغذاء، والتصدي لظاهرة الميكروبات المقاومة للمضادات الحيوية، ومكافحة الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان؛ هو تعاون مشترك ومستمر بين وزارات الزراعة والصحة والبيئة، وهنا تتضح أهمية التنسيق والمتابعة بشكل مستمر ومستدام للحفاظ على صحة المصريين، والبيئة المصرية. وفي ظل السعي لتحقيق الاستدامة، يعد المشروع القومي لتنمية الريف المصري من أهم المشروعات التي لها تأثير مباشر على الصحة العامة للمصريين، من حيث التركيز على الأمن الغذائي، وسلامة الغذاء من خلال تحسين جودة المزروعات والمحاصيل، والوقاية من الأمراض المشتركة، من خلال دعم الخدمات الصحية البيطرية، والاستمرار في ترصُّد الأمراض بالتعاون مع وزارة الصحة والسكان، بالإضافة لإلقاء مزيد من الضوء على صحة الأمهات، والأطفال، وتحسين جودة الحياة.
google-playkhamsatmostaqltradent