الصُّعُود
قصة قصيرة بقلم : طارق حنفي
لا يكاد يُرَى؛ بملابسه البيضاء وسط جبل الثلج - هائل الحجم - الذي يتسلقه.. يجاهِد عجزَه مُستَنفِدًا جُلّ إرادته، في مقامٍ حيث لا تكفي الإرادة، بل يحتاج إلى القدرة والاستطاعة؛ وإلا صار أسير مقامه دون أمل في اَلِانْعِتَاق، لا يمتلك من الأسباب إلَّا يدَيه التي يستخدمها في التسلُّق، وعندما يصادف واحدة من الفجوات القليلة المتناثرة على المنحدر يخلد إليها؛ يستريح ويلتقط أنفاسه.. لكن، كيف بلغ به الأمرُ حدَّ الأسرِ؟ نَاشَدَ التذكر دون جدوى، بدأ يهمس في حيرة: "ما جدوى امتلاك النيَّة والإرادة لتسلق جبل ثلجي شديد الانحدار، إن كان من المستحيل تسلقه؟! لماذا قد يوضع أي مخلوق في هكذا موقف معجز دون امتلاك أسباب تجاوزه؟!"، غير أنه يشعر بوجوب الصعود إلى القمة.
قِلة الحيلة التي تكبِّل يدَيه وقدمَيه بحبلٍ من العجز الذي ينعقد طرفه حول رقبته تلخص حاله، يلتقط أنفاسه في صعوبة، يقاوم غيبوبة تداهم عقله، كما يقاوم شعور اليأس الذي يلتهم إرادته.. جال بخاطره أن يهبط؛ أمال رأسه ببطء وحذر يسترق النظر إلى السفح، لكنه لم يرَ إلا ما يشبه الجدار الرأسي من الثلج لا يستبين بدايته، ودخان يصعد بنعومة ويكاد أن يُغْشيه، وعن يمينه ويساره يغطي الثلجُ الأفق.. تطَّلع إلى أعلى، إلى ما يبدو كنورٍ أخضر باهت خلف غشاءٍ من ضبابٍ أبيض تغوص فيه قمته، حتى ليبدو أن جدار الثلج هو نفسه جبل من الضباب.
التقى - بعد طول عناء - بفجوة ضيقة فكدَّس جسده داخلها، متكوِّرًا على نفسه كجنين مستكين يأبى الخروج ورؤية العالم.. بعد لحظات، همَّ الغيوم داخل عقله منافسة الضباب في الأعلى قبل أن تخور قواه وتُسلب منه إرادته، أيقن أنها النهاية لا ريب؛ سكَنَتْ مقاومته، أغلق عينيه منتظرًا موته.. فقد منطقه؛ أخذ يهذي بكلمات ظنًّا منه أنه قد لامس الموت بالفعل: "إن الموت ليس بهذا السوء، على الأخص حين يبذل المرء قصارى جَهده، لقد حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أتسلق الجبل وأؤدي مهمتي"، وفي الأخير همدت أنفاسه تمهيدًا إلى أن يتحول جسدي إلى قطعة ثلج تضاف إلى الجبل، شُجَّت رأسه فجأة؛ اقتحمتها إحدى الأفكار عنوة (إن في حالة موته سيغلق بجسده تلك الفجوة التي - ربما - يلجأ إليها أحدهم في محاولة أخرى لإتمام المهمة)، أورثت قلبه غمًّا وحزنا، لم يلبثا أن هُجّرا؛ وشعورٌ بالرأفة والشفقة على من سيسلك الدرب بعده يستوطن مكانهما القلبَ، آخرين لا يعرفهم، - ربما - لن يقابلهم أبدا.
اجتاح صدرَه ما نفخ الروح فيه؛ فأحيا في قلبه همَّته وحسنَ ظنِّه، ذُكِّرَ برسالته، همس في نفسه: "أنا وإن كنت فعلت ما عليّ، إلَّا أنَّني لا بد من أن أُتمَّ الرحلة رحمةً بمن سيأتي بعدي"، فتح عينيه مرة أخرى وغادر جحره، قام من مقامه هذا يبتغي مقامًا أعلى.
رفع بصره متطلِّعًا إلى الضوء الأخضر خلف الضباب، مبتسمًا له في ثقة، جاءه الضوء من فوره يسعى، التقط جسده وصعد به إلى أعلى حتى وصل به إلى قمة الجبل، وحطَّ به.. ثم بدأ الضوء ينساب بنعومة، وهو يخطو بحذر خلفه متخيرًا موضِع قدمَيه بعناية؛ وهو يطأ بهما مواطئ لم تلامس قدمًا قبله.. توقف الضوء وعظم حجمه، توقف على مسافة منه وشرَعَ يتمِّم رسالته، أخرج من ملابسه البيضاء بذرة، وغرسها، فما لبثت أن صارت من فورها شجرة مثمرة، ثُمَّ امتد من حولها الشجر والزرع يرسم واحةً خضراء، وصَّل بين آثار أقدامه ليرسم الطريق إلى الواحة، وضع على جانبيه الإرشادات والوصايا لتساعد السائرين فيه على الوصول.. انكبَّ على جذوع الشجر ولحائه يصنع منهما سَلالِم عدة، ألقاها من أعلى الجبل إلى أسفله بعد أن ثبت أطرافها وأحكمها؛ حتى ييسر الصعود على من يأتي خلفه.
جلسَ في جنَّتِه يَتَطَلَّع إلى الأفق، مُتَمَنِّيًا من كل قلبه أن يكون قد أتمَّ رسالته وأن يكون قد أحسن عملا.. أنتبه إلى ما يحدث داخل الضوء الأخضر، رنا إليه يترقَّب، والضوء ينشق رويدًا كاشفًًا عن جبلٍ آخر.
