recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الثورة والحبيب للأديب الدكتور سعيد المنزلاوي




عرض. طارق أبو حطب 


إذا ما أردت شيئًا وحيل بينك وبينه، فثرْ؛ فللثائر ما أراد.

عبد أسود من أم حبشية، كُتب له الخلود كما أراد، وانتشى بذكر مآثره الزمان، إنه "عنترة بن شداد العبسي"


 ولد وعاش في مجتمع قبلي ينماز فيه السادة عن العبيد، ويصبح النسب الوضيع سبة تلازم صاحبها ولا تنفك عنه:


وقد أمسوا يعيبوني بأمي 


 ولوني، كلما عقدوا وحلوا


إن جريرته التي لا ذنب له فيها، لونه والذي ورثه عن أمه تلك الأمة الحبشية السوداء، فنشأ عبدًا ولقي نكرانًا من الجميع: الأب، الذي لم يرد الاعتراف به، والعم، الذي تعالى عليه، والحبيبة، التي تجاهلته.


فأراد أن يكون له شأن في مجتمع قبلي، لا يرى السادة فيه للعبيد فضلًا ولا مكرمة، وبدأ ينظر إلى نفسه، فأبصرها سوداء اللون، وفتش عن أصله، فوجد أنه ابن أمة حبشية؛ فأدرك بفطرته أنه لا يد له في ذلك، ولا حيلة له في تغيير لون جلده، أو استبدال وضاعة أصله؛ فلم ينشغل بما يعجز عنه، وإنما صنع ما يعجز عنه السادة الأحرار:


ما ساءني لوني واسم زبيبة 


إذ قصَّرتْ عن همَّتي أعدائي


ومن هنا كانت ثورته ثورة ناعمة تعايش فيها مع واقعه وحمل نفسه على الرضا ورأى في الكون من حوله ما يشبه لونه لون جلده، دون أن يكون معيبًا:


لئن أك أسودًا فالمسك لوني 


 وما لسواد جلدي من دواء


ولكن تبعد الفحشاء عني 


 كبعد الأرض عن جو السماء


لقد أبصر في السواد المعيب جمالًا وعبقًا فليس كل ما هو أسود مشين، وهو وإن عجز عن تغيير لونه، إلا أنه استطاع أن يمحو سواد اللون ببياض الفعل:


تعيرني العدا بسواد جلدي 


وبيض خصائلي تمحو السوادا


وإذا كان قد عجز عن تغيير لون جلده، إلا أنه يستطيع يغير من حاله، فكان أن ثار على رقه ببطولته وشجاعته والتي بز فيها غيره من السادة وفاقهم فيها:


أنا الأسد الحامي حمى من يلوذ بي 


 وفعلي له وصف إلى الدهر يذكر


إذا ما لقيت الموت عممت رأسه 


 بسيف على شرب الدما يتجوهر


إنه لا يهاب الموت، بل إنه يسرع إليه الخطا:


وإذا الموت بدا في جحفل 


 فدعوني للقاء الجحفل


فهو يرى نفسه من فرط شجاعته، ولِما يحصد بسيفه من الرءوس والهامات، أنه والموت شيء واحد:


وأنا المنية حين تشتجر القنا 


 والطعن مني سابق الآجال


وقوله:


إني لأعجب كيف ينظر صورتي 


 يوم القتال مبارز ويعيش


وواجه تجاهل الأعداء له بالإقرار بشجاعته قولًا وعملًا:


أنا العبد الذي خُبرتَ عنه 


وقد عاينتني فدع السماعا


أنا العبد الذي خُبرتَ عنه 


 يلاقي في الكريهة ألف حر


أنا العبد الذي يلقى المنايا 


 غداة الروع لا يخشى المحاقا


أنا العبد الذي سعدي وجَدِّي 


 يفوق على السها في الارتفاع


وكما ثار على منكريه بشجاعته، ثار عليهم بشاعريته:


فلئن بقيت لأصنعن عجائبًا 


 ولأبكمن بلاغة الفصحاء


ويجمع في بيتين اثنين بين فروسيته وشجاعته من جانب، ونبله من جانب آخر:


إذا التقيت الأعادي يوم معركة 


 تركت جمعهم المغرورَ ينتهبُ


ليَ النفوسُ، وللطير اللحومُ، وللوحـ 


 ـش العظامُ، وللخيالة السلبُ


لقد كان دائمًا يسعى للعلا، يواجه سواده بيض فعاله، ونسبه الوضيع بشجاعته وبطولته:


دعني أَجِدُّ إلى العلياء في الطلب 


 وأبلغ النهاية القصوى من الرتب


إنه الآن يقف على ربوة عالية دونها الآخرون:

أنا العبد الذي سعدي وجدي 


 يفوق على السها في الارتفاع

سموت إلى عنان المجد حتى 


 علوت ولم أجد في الجو ساعي


وآخر رام أن يسعى كسعيي 


 وجدَّ بجده يبغي اتباعي


فقصر عن لحاقي في المعالي 


 وقد أعيت به أيدي المساعي


ومن هنا أعلنها مدوية على مسمع من الزمان:


ستذكرني المعامع كل وقت 


 على طول الحياة إلى الممات


إن الذكر له هو الترياق الذي تداوى بها عنترة من مرارة التجاهل والرق والنكران الذي لاقاه في حياته من كل المحيطين به:


فذاك الذكر يبقى ليس يفنى 


 مدى الأيام في ماض وآتي


كل هذه الخلال والفضائل جعلته يؤمن في داخله أنه حر، ومن ثمَّ اهتز فؤاده لابنة عمه "عبلة"، وإذا كان قد انتصر على الفوارس، فإنه انهزم لسلطان هواها:


يا عبلُ إن هواك قد جاز المدى 


 وأنا المُعنَّى فيك من دون الورى


     وهذا الحب هو الذي جعله يرضى بالهوان بالرغم من علو هامته:


ولولا حب عبلة في فؤادي 


 مقيم ما رعيت لهم جِمالا


عتبت الدهر كيف يذلُّ مثلي 


 ولي عزم أقدُّ به الجبالا


ولعل هذه المرأة (عبلة) كانت وراء هذه الثورة المباركة، والتي حركت راعي جمال القوم، ليكون حامي حمى القوم:


أنا الحصن المشيد لآل عبس 


 إذا ما شادت الأبطال حصنا


فلم يكن هم عنترة في المقام الأول اعتراف قومه به، ولكن اعتراف ابنة عمه به:


هلَّا سألت الخيل يا ابنة مالك 


 إن كنت جاهلة بما لم تعلمي


يخبرك مَن شهد الوقيعة أنني 


 أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم


أنا البطل الذي خُبرتِ عنه 


 وذكري شاع في كل الآفاق


فالمرأة هي المحرك الرئيس لدفتي الصراع الداخلي والخارجي، والتي انتهت بعنترة إلى أن يبز السادة والأحرار، بما منحه الله من شجاعة وشاعرية لا مثيل في عصره ومجتمعه.


ومن ثم دفعه الحب إلى أن يثور على الأنظمة الجائرة والعادات البالية في مجتمع قبيلته، والتي لا تعترف إلا بالحر صاحب الحسب والنسب، فاستعاض عن التباهي بالآباء والأعمام والأخوال التباهي بالفرس والسيف والرمح:


ومَن قال إني سيد وابن سيد 


 فسيفي وهذا الرمح عمي وخاليا


 ومن هنا راح يثني عليهما:


ولي جواد لدى الهيجاء ذو شغبٍ 


 يسابق الطير حتى ليس يلتحق


ولي حسام إذا ما حلَّ في رهج 


 يشق هام الأعادي حين يمتشق


فهذه الأشياء ليست جمادات، وإنما هي كائنات حية خبرها وخبرته من كثرة المعايشة بينه وبينها:


فسائلي فرسي هل كنت أطلقه 


 إلا على موكب كالليل محتبك


فسائلي السيف عني هل ضربت 


 يوم الكريهة إلا هامة الملك


وسائلي الرمح عني هل طعنت 


 إلا المدرع بين النحر والحنك


ومن ثم اقتنص حريته من مخالب النظام القبلي الجائر بشجاعته:


ينادونني في السلم يا ابن زبيبة 


 وعند صدام الخيل يا بن الأطايب

  

ولكنه لم يرض إلا بالحرية، تنطلق كالحياة من فم والده "كر وأنت حر":


ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها 


 قيل الفوارس ويك عنتر أقدم  


                                                                                                        ولقد كان حقيقًا بها وجديرًا:


وإني اليوم أحمي عرض قومي 


 وأنصر آل عبسَ على العداة


إن لعبلة نصيب وافر في هذا الذكر، فهي ـ وإن لم تكن تقصد ـ دفعت بعنترة عندما أحبها إلى أن يكون فارسًا شاعرًا حرًّا كريمًا، فكتب له الخلود، ونسجت حوله الأقاصيص، وأعجب به إذ سمع شمائله رسولُ الإسلام صلى الله عليه وسلم "ما ذكر لي أعرابي فأحببت أن أراه، إلا عنترة".

 الثورة والحبيب  للأديب الدكتور سعيد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent