وشاية العنوان قراءة في قصة "حالة مرضية خاصة" للأديب أشرف بدير
كتب.د. سعيد محمد المنزلاوي
تفوح قصة "حالة مرضية خاصة" بدلالات حزينة سرت إليها عبر عنوان المجموعة التي تحويها وهي "زهر البنفسج" والتي تآزرت مع عنوان القصة في بعث حالة من الأسى والشجن. وتلفتنا لفظة "خاصة" بدلالتها القصدية، فهي لا تتعلق بالمرض ولكن بالمريضة، ولا تُعنى بحالتها، وإنما بحالها.
وبالرغم من مجيء العنوان نكرة في كلماته الثلاثة، إلا أنه يشي بالنهاية، بل ويسوقنا إليها سوقًا حثيثًا في رحلة استغرقت من عمر شخصيتيها نصف قرن بل تزيد.
يبدأ الحدث من بكارة التجربة ونقائها وصفائها في صداقة بريئة بين جارين ريفيين يلتقيان كل يوم "في أول الطريق الترابي الطويل الذي يؤدي لأطراف القرية، حيث توجد مدرستنا الابتدائية".
في ذاك العمر وذاك الزمان النضير لم تكن بين الجنسين سوى الصداقة البريئة بشفافيتها وطهرها وعفويتها "وكنا ـ بدون وعي، نجد يدينا الصغيرتين تتشابكان في مودة". إنه عهد الطفولة بنقائه وفطرته والتي لا تميز فيها بين الولد والبنت، فلم يكن لهما شاغل خلال رحلتي الذهاب إلى المدرسة والعودة منها سوى تبادل "بعض الأسئلة الدراسية.. خاصة في مسائل الحساب المعقدة".
كبرا وكبرت معهما تلك المودة خلال مراحل التعليم المختلفة، إلى أن "فرقت بيننا نتائجُنا في الثانوية العامة والتحقتُ بكلية الطب، والتحقتْ هي بكلية التجارة". سار كل منهما في طريقه الجديد، نزح هو إلى المدينة بصخبها وضجيجها، ولبثت هي في قريتها، وصار لكل منهما حياته الخاصة، لكن بقيت من الماضي الجميل ذكريات ندية يستعيدان عبقها إذا التقيا صدفة في بعض مناسبات القرية.
إلى هنا والأحداث تسير سيرها الطبعي، إلى أن جاء يوم وأثناء مروره على القسم الذي يشرف عليه بالمستشفى العام، فوجئ بها "فاقدة الوعي، ولم تعد تدري بالحياة من حولها"، وهنا استيقظ الطفل بداخله "وبرفق أمسكت بيديها الضعيفتين كما كنت أفعل في الصغر". ربت على جبينها في حنو؛ وكأنه يوقظ الذكريات من مكامنها؛ فتساءل دون أن ينتظر جوابًا منها ـ فهي فاقدة للوعي ـ "كم من الأعوام يا عزيزتي مرت علينا ولم نجب على مسألة الحساب الأخيرة؟" وتكون المفاجأة تتحرك مقلتاها نحوه وتجيب "خمسون عامًا مرت علينا يا صديقي". فسألها عن حالها؛ ليطيل أمد حياتها، فأجابت "أنا بخير يا صديقي، وصمتت طويلًا"، وكان بكاؤه عليها شديدًا. إنه لا يبكيها وإنما يبكي ونبكي معه عهدًا جميلًا حرم منه، وودًّا صافيًا قد افتقده.
إن القصة تحمل شحنة من الانفعال تُعدي مَن يقرؤها، فلا يملك إلا أن يسمح لعينيه أن تغتسلان بالدمع رثاء لعهد من الصفاء والنقاء قد تولى. كفيلةٌ هي الذكريات أن تثير مكامن الدمع والشوق والحنين. ويكون صدق التجربة حين تنتقل من خصوصية التجربة إلى العموم، فتمس شغاف الروح والقلب، ونجتر في أسى تلك الذكريات التي طواها النسيان أو كاد.