لست أبي.. قصة قصيرة
بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي
- لست أبي.
فجرها في وجه أبيه، بإيعاز من أمه، إثر مشادة حادة بين أمه وأبيه.
قالت الأم لابنها في وقاحة تحسد عليها:
- هذا ليس أبوك.
فنظر الغر إلى أبيه نظرة تحدٍّ صارخ، وفجر كلمته الآثمة دون أن يعي معناها، أو يدرك تداعياتها على قلب أبيه المكلوم، بل راح يكررها في صلف:
- لست أبي.
اخترقت الكلمة نياط قلب الوالد؛ فمزقته، لم تقوَ قدماه على حمله، فهوى بين ابنه وزوجه، حين أبت أذرعهما عن حمله، ارتطم بالأرض. كان أديم الأرض ـ رغم قسوتها ـ أرحم به منهما.
شعر بالبرودة الشديدة تغزو جسده الواهن، بالرغم من شدة القيظ. تحامل على الجدران حتى وصل إلى فراشه، تدثر بأكثر من غطاء، عالج النوم؛ ليريحه مما يعانيه، كانت دقات قلبه متسارعة، وكان صدره ينتفض معها بشدة. كانت عيناه زائغتين، محمرتين، متقدتين.
عبثًا حاول أن يدفن عينيه تحت جفنيه، كانت الأفكار تتصارع في رأسه، طاردة أية محاولة للنوم، لم يكن الأمر هينًا عليه، أعياه الغضب، حتى شعر بالتخدير في أطرافه، خشي معه أن يصاب بالشلل. لكنه طرد تلك الوساوس وطرد معها حمى الغضب، حتى لا تسيطر عليه.
خلال الساعات التالية، دخلت زوجه غرفته، كأنما لتطمئن أنه لا يزال على قيد الحياة. كانت تتمتم بكلمات غير مفهومة، استشف منها أنها تود لو يفارق الحياة؛ لتستريح.
من مخدعه تناهى إلى مسامعه حديث الأم مع ابنها، كانت ضحكاتهما تخترق عليه سكون الوحدة، كانت كالسياط تلهب أديم ظهره فتمزقه في قسوة.
في رقدته، تذكر نصيحة طبيبه المعالج، وهو طبيب مخضرم ـ على حد قوله:
- لا تسمح للغضب أن يتملك منك، وإلا فقدت السيطرة على نفسك.
- يا صديقي، أكثر ما توهن البدن وتمرضه، هي جمرات الغضب حين تتابع عليه.
لقد أفاد من تلك النصائح الغالية، فتخفف كثيرًا من حدة الغضب والاستسلام له، كما كان في السابق.
ولكن، ما سبب هذا التخدير في أطرافه، هل هي بادرة شلل نصفي؟ ازدادت دقات قلبه لهذا الخاطر، واستسلم لخواطره، لا شك أن ما حدث منذ قليل كان فوق احتماله، بل واحتمال كل البشر، ولكنه مجبر أن يتحمل وإلا استسلم لجمرات الغضب، ودمَّر نفسه.
- وأصعب شيء على المرء أن يحيا بجسد مريض بين أناس لا يُعنون به ولا يسهرون على خدمته وتمريضه ورعايته.
كانت هذه آخر جملة ودعه بها طبيبه المعالج، وهو يفتح له باب الخروج؛ ليسمح للحالة التي بعده بالدخول.
كادت رأسه أن تنفجر، طوقها بكلتا كفيه، ضاغطًا عليها بما أوتي من قوة، لعله يستطيع طرد الخواطر والأفكار التي تتزاحم داخل رأسه. عبثًا حاول أن يعالج النوم، ولكنه تأبى عليه. وجدها فرصة، ليتأمل حياته، ويسبر أغوار المشادة الأخيرة وجذورها، ومن ثم يحدس بالنتائج، ويسعى ـ وهو على دراية ـ نحو الخاتمة أو العلاج أو إسدال الستار على المشهد الأخير من تلك المأساة أو المحنة، أو "الملهاة" كما يروق له أن يسميها؛ فما أكثر المبكيات فيها والمضحكات.
في جلسة التأمل، والتي حشد فيها الوسائد خلف ظهره، أغمض عينيه، مستعرضًا شريط العمر، والذي كان يمر أمامه كقطار سريع، جعل يلقي باللائمة على نفسه، قبل أن يلوم زوجه وابنه. نعم، راح يكيل اللوم على نفسه، في محاولة منه لجلد الذات، وتحميلها النصيب الأوفر من مأساته ومحنته ومعاناته.
- ما حدث اليوم، لم يكن وليد ساعته، ولكنها تراكمات امتدت نحو عقد من الزمان، حتى ربت وتمخضت عن تلك الكلمة السمجة التي فاه بها ولده ـ كالببغاء ـ خلف أمه المبغضة.
وجاءه صوت جاره من بين طيات الزمن:
- طلقها، فإن لم تستطع خوفًا من تبعات الطلاق، أو خوفًا على مصير ولدك الوحيد، تزوج عليها، والشرع حلل أربعة.
ليته استجاب يومها لنصيحة جاره، والذي رأى ما لم يره، بعد أن حاول أكثر من مرة أن يصلح بينهما، ولكن دون جدوى. كان الصدع يتسع بينهما يومًا بعد يوم، وكان يكذب عينيه.
- أطلقها؟ أو أتزوج بأخرى. أن لم أييأس بعد من محاولة إصلاح أسباب الشقاق بيننا، فلا يزال لدي الأمل لعودة المياه إلى مجاريها مرة أخرى.
ما أشد تندمه اليوم على تفاؤله الغبي وقتذاك، ليته استجاب لمن نصحوه بطلاقها، ولم يمر بتلك المعاناة الشديدة.
كان كل الناس يرون ما لا يراه، وكان وحده ينسج أحلامًا وآمالًا، ولكن من خيوط العنكبوت، لم تتحمل الهزات المتتابعة عليها، فتهرأت وتمزقت، وأمست بين يديه مسخًا قبيحًا، راح يتنكر له.
لم يدرِ كم ساعة مرت وهو طريح الفراش والذكريات، إلا أن بزوغ الفجر قد وضع حدًا لرقدته الطويلة، والتي لم يغمض له فيها جفن. تحسس قدميه بكلتا يديه، كان الخدر قد زال عنها، حمد الله، وحاول النهوض، شعر كأنه كبر عشرين سنة جملة واحدة، سار إلى الحمام محني الظهر، اغتسل؛ حتى يمحو أثار المعاناة التي ناء تحت ثقلها عشر سنين. كانت مناجاته لربه وهو ساجد، أن يوجد له فرجًا ومخرجًا. بعد أن أتم صلاته، حزم أمتعته الضرورية، وخرج بين دهشة زوجه وابنه، ما إن استقر خارج البيت، حتى تسلل نسيم الصباح إلى رئتيه، فتنسمه في حبور، شعر بظهره قد استقام؛ فمشى قدمًا دون أن يلتفت وراءه.