انتظار.. قصة قصيرة.. بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي
"ماما زمنها جاية ..جاية بعد شوية ،، جايبة لعب وحاجات"
كانت الكلمات تتردد في مرح وسرور من طفلتين صغيرتين تغمران بأصواتهما الرقيقة المكان بنغم طفولي جميل، وتنقلان الخطو والطرف في شوق من مكان لآخر غير مباليتين بشيء مما حولهما، وصوتهما يشق طريقه عاليًا صاخبًا رنانًا، والضحكات تقرقر في براءة وعذوبة لا تعيران المارَّة أي اعتبار، ولا تتوقفان عن العدو والصخب والغناء، وكأنما الزمان والمكان ملك لهما دون سواهما. ولم تكن حدود مملكتهما كبيرة، فعلى يمين الخارج من القرية مدرسة ابتدائية، هي المدرسة الوحيدة في تلك القرية، كثيرًا ما كانت الصغيرتان تتبادلان الحديث مع أترابهما عند خروجهن من المدرسة، في خطواتهن الوئيدة، فكن يقفن أكثر مما يسرن، وتعلو أصواتهن في نقاشات لا يهدفن من ورائها لأية غاية. وتمنت الصغيرتان أن تمر شهور الصيف سريعًا حتى تدخلان عالم المدرسة المثير والذي ينسجان حوله القصص المثيرة.
وفي أقصى اليسار وبعيدًا عن العمران تقبع مقابر القرية في سكون ووحشة، يأوي إليها من سافر سفرًا طويلًا (بلغة الأطفال) وهناك يجدون الراحة والسكون من طول الرحلة والمسير.
كان بين المدرسة والمقابر فناء ليس بالمتسع، اصطلحوا على تسميته بوابة القرية، بالرغم من أن القرية مفتوحة من جميع الجهات وليس ثمة بوابة، لكنها كانت الطريق الرئيسة التي يعبرها كل رائح إلى المدينة الصغيرة أو غاد منها.
كانت هذه البوابة التي تقع على أطراف القرية بين مدرستها ومقبرتها، هي المكان المفضل لهاتين الطفلتين تخرجان إليه ظهيرة كل يوم، كانت "فرح" تنظر والدتها العائدة من المدينة الصغيرة، والتي تبعد عن قريتهم بضعة كيلو مترات تقطعها الأم سيرًا على قدميها. ولم تكن "عفاف" تتخلف يومًا واحدًا عن انتظار عودة والدة صديقتها "فرح" وفي كل يوم ترددان معًا أغنيتهما الأثيرة، تغنيها "فرح" لأمها، وتشاركها "عفاف" دون أن تعي أن التي تغني لها وتتشوق لأوبتها في ظهيرة كل يوم، ليست أمها، ربما وجدت منها عطفًا وحنانًا يشبهان عطف وحنان الأم، لكنها ليست أمها على أية حال.
لم تكن الطفلتان تنتظران طويلًا، فكانت الأم تهل عليهما، تحمل فوق رأسها "السبت" الذي تذهب به في الصباح مملوءً بالبيض والجبن، وترجع به في الظهيرة مملوءة بالخضر والفاكهة وبعض الطعام، وما أن تطل من المنحى الضيق الموصل لبوابة القرية، حتى تهرولان نحوها في مرح، وتستبقان إلى حضنها، فتنحني بحملها، وتغمرهما بالقبل. ويسير الموكب الصغير داخل أزقة القرية الضيقة، ثم تدلف اثنتان داخل بيتهما، وتنصرف الثالثة إلى بيتها. ربما أتحفتها المرأة ببرتقالة أو بعض حبات العنب أو الحلوى، أو دعتها للغداء، ولكنها في كل حال، لا بد وأن تنصرف إلى بيتها. فما أن يوصد الباب، حتى توأد بسمتها ويزول مرحها، وتجرجر قدميها في تثاقل نحو بيتها، وما أن تدلف بقدميها وتستقر داخل البيت، حتى تنهال عليها الشتائم والسباب من زوجة أبيها:
- أين كنتِ يا مقصوفة الرقبة؟ من الضحى وأنا أبحث عنك.
- أنا قدامك يا عمتي، عاوزة إيه؟
- عاوزاك يا روحي تلمي الأكل، وتغسلي الماعون وإياك تكسري صحن ولا فنجان، وإلا بشرفي أكسر رقبتك.
- (في انكسار) حاضر.
وقبل أن تبدأ في غسيل الأواني، تدس في بطنها بقايا الطعام من الصحون، ثم تنهمك بعد ذلك في إعداد العشاء والذي لا تنال منه إلا الفتات، وأحيانًا لا يتبقى لها بعد انتهاء أبيها وزوجه منه ما يقيم الأود، فتنام خاوية البطن.
وأثناء تنظيف الأواني، تناهى إلى مسامعها صوت الصبية وهم يلعبون لا يشغلهم عن اللعب شاغل، وتساءلت في براءة:
- لماذا أنا الوحيدة التي أحرم من اللعب؟
وخطرت ببالها فكرة، وأدارتها في رأسها، ثم برقت عيناها ودارتا في محجريهما في تألق عجيب، وارتسمت على شفتيها ابتسامة طربت لها، ثم حكت كفيها مما علق بهما من (هباب الحلل)، وتركت الماعون بحاله، وانفلتت مسرعة نحو الشارع؛ لتشارك لداتها اللعب، ليعود إليها تورد وجنيها، وتقرقر بالضحك، متجاهلة ما يمكن أن ينالها من زوج أبيها، والتي فوجئت بها وهي تعدو نحوها، تزفها بأقذع ألوان السب؛ همت أن تطلق ساقيها للريح، ولكن نظرات زوج أبيها الحادة جمدتها في مكانها كجرذ أمام قط كبير، واستسلمت للكمات المرأة وسبابها ولعنها، وسط ضحكات أترابها، والمرأة تجرها من شعرها غير عابئة بصراخها وتوسلاتها لها أن تسمح لها باللعب مع أترابها بعض الوقت.
كان أبوها في قيلولته، فأيقظته زوجه، وهي تصيح فيه:
- ابنتك تاركة الماعون، وخرجت لتلعب في الشارع مع الصبية.
- (موجهة الكلام لعفاف) فاكرة نفسك طفلة، ولا وراءك الخدم والحشم.
ثم صفعتها في قسوة، وتوجهت لزوجها بالكلام، قبل أن ينبس بكلمة واحدة دفاعًا عن ابنته:
- الذنب ليس ذنبكِ، ذنب مَن تركك دون تربية.
أثار كلامُها حمية الأب؛ فانهال على ابنته صفعًا وركلًا دون رحمة أو شفقة، وتجري الطفلة إلى حشيتها، فتبللها بدموعها، وتنام كالعادة دون عشاء. بينما والدها وزوجه يتقاسمان في حجرتهما الضحكات والطعام.
إنها لا تذكر من ملامح والدتها شيئًا؛ فقد ماتت قبل أن تتم عامها الرابع، وبموتها ذاقت مرارة اليتم، لاسيما بعد أن بنى أبوها بزوجه الجديدة بعد أشهر قليلة من وفاة والدتها.
وتمثلت أمام عينيها والدة "فرح" وبسمتها التي لا تفارق شفتيها، وتساءلت في براءة:
- لِمَ لا تكون والدة فرح والدتي؟
وسحبتها أحلام اليقظة شيئًا فشيئًا لاهية لها عن صراخ بطنها الجائعة وهي تقرقر دون جدوى، حتى تسلل النوم إلى عينيها الدامعتين.
ولم تكد أشعة الشمس المتسللة من خصاص نافذة حجرتها تفترش حجرتها الصغيرة؛ حتى استيقظت على يد تربت على خدها، فتحت عينيها، فإذا والدها، فارتمت في حضنه؛ لتعب من حنانه الذي حرمت منه بعد وفاة والدتها، ولكنها فوجئت به يدفعها بعيدًا عنه، ويأمرها في حدة:
- عليك أن تعتذري لزوجة أبيك، وألا تغضبينها مرة ثانية.
وجمت عفاف مما سمعته، وألجم لسانها فلم تنطق.
فقال لها في تودد:
- اعتبريها أمك.
فغرت عفاف فاها في دهشة، وشعرت بالخيبة والإذلال. لم ينتظر جوابها، بل تركها وخرج؛ حتى لا يسمح لها بأن تعترض.
وترددت في أذنها كلمة أبيها "اعتبريها أمك"، واستنكرت أن تكون هذه المرأة الفظة والدتها، وتمنت مرة أخرى أن تكون والدة فرح هي أمها، وفي نشوة حلمها هذا، أيقظها منه صوت أبيها ينادي عليها؛ فخرجت مطأطأة الرأس، لتعتذر لزوج أبيها من ذنب لم تقترفه يداها؛ ولتتحفها المرأة بمزيد من الأوامر والمهام، بينما العلكة في فمها، تطرقعها في تشفٍ وانتصار.
كانت ما كُلفت به الطفلة الصغيرة فوق طاقتها ووسعها، ولكن لا مندوحة من الرضوخ لأوامرها، إذ هي مغلوبة على أمرها.
ومرت الأيام مكرورة في ملل وسأم إلا عند الظهيرة، عندما تنفلت من بيتها لاستقبال والدة "فرح"، والتي تتدثر في حضنها بعض اللحظات، لتعود آخر الأمر إلى بيت أبيها، خادمةً عند زوجه.
مرت شهور الصيف، ووافت سنها دخول المدرسة، فطلبت من والدها أن يلحقها بالمدرسة مع صديقتها فرح، وقبل أن ينبس الأب ببنت شفة، اندفعت زوجه في حمية:
- من أين؟ وهل نملك ما يسد جوعك حتى ننفق على تعليمك.
ونظرت إلى زوجها، وقالت في دلال:
- البنت إذا ذهبت إلى المدرسة مَن يساعدني في شغل البيت، وأنا حامل في ابنك.
فأمَّن الأب على كلامها، بعد أن تحسس بطنها في نشوة:
- البنت تعلمت أو لم تتعلم، مصيرها للزواج والبيت.
وبذلك أُسدل الستار على مسألة تعليمها.
وكانت عفاف تقف ظهيرة كل يوم بجوار مدرسة "فرح" تنتظر خروجها، ثم تذهبان سويًا إلى مدخل قريتهما لانتظار أوبة والدة فرح؛ لتنعم بحضنها الدافئ بضع لحظات، وتتحفها المرأة ببعض الحلوى أو الثمار.
مرت الأيام، وصار لفرح صويحبات وزميلات، ما جعلها تزهد في صحبة "عفاف"، فلم تعد تسامرها أو تلعب معها كسابق عهدها، ومع الوقت انضمت إحدى زميلات فرح إلى موكب الانتظار اليومي، كانت "بسمة" تنتظر هي الأخرى والدتها والتي تعود في نفس التوقيت من عملها بالمدينة الصغيرة. وتشاركت الفتيات الثلاثة في أغنيتهن الأثيرة "ماما زمنها جاية"، وفي نشوة الطرب فجرت "بسمة" في وجه "عفاف" هذا السؤال:
- لماذا لا تنتظرين والدتك مثلنا؟ أليس لك أم؟
صفعها السؤال، فألجمها عن الكلام، وتذكرت أمها والتي لم تذكر شيئًا من ملامحها. لقد أخبروها أنها سافرت سفرًا بعيدًا وأخذت طريق القبور. ونظرت عفاف صوب القبور، ولكن لم تجد أحدًا. ولاحت على البُعد والدة "فرح" تتثنى تحت حملها الثقيل، وملأت الابتسامة وجهها عندما رأت ابنتها في انتظارها، وما أن لمحتها فرح حتى جرت نحوها. ولأول مرة لم تجرِ "عفاف" تسمرت في مكانها بينما "فرح" قد طوقت أمها، ولأول مرة لاحظت "عفاف" أن الحضن الذي شاركت فيها صديقتها وكان يضمهما معًا أصبح لا يتسع إلا لفرح وحدها، فجرت صوب القبور، إلى المكان الذي أخبروها أن أمها سافرت إليه.
وفوق مقبرة الأم النائمة في سكون، راحت "عفاف" في ظهيرة كل يوم، تردد ـ وحدها ـ أغنيتها الأثيرة: "ماما زمنها جاية ..جاية بعد شوية ،، جايبة لعب وحاجات". ولا تزال في انتظار اليوم الذي تأتي فيه أمها حاملة لها اللعب والحب والحنان.
