لا تعاتب الماضي.. قصة قصيرة
بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي
بدا عليه الندم، وراح يضرب أخماسًا في أسداس، دنت منه وطبعت على شفتيه قبلة، وأدت بها الكلمات على شفتيه، ثم أردفت في دلال:
- لا تعاتب الماضي.
زم شفتيه في أسىً، قبل أن يقول:
- إنني ناقم عليه.
قهقهت في دلال، ثم قالت بلهجة الحكيم:
- إن معركتك خاسرة، فالماضي لا يعود.
طوقها بذراعيه؛ كي يمنحها قبلة، قبل أن يقول:
- لا يعود، نعم، ولكنه باقٍ فينا، بل ويحيا بيننا.
كانت لا تزال تبني قصر أحلامها من رمال الشاطئ، فرفعت له وجها أشرقت فيه ثناياها عن ابتسامة ناصعة؛ فانسابت الكلمات في دلال آسر:
- إنني أعيش هذا الماضي، الذي مرت عليه سنوات وسنوات، أعيشه بذكرياتك معي، أقتات منها لأحيا، أما أنفاسك، فإنني أتنسمها وأملأ بها رئتيَّ.
شردت ببصرها نحو الشمس وهي تتأهب للغروب، فتغيرت نبرة صوتها، وكساها حزن قاتم، وشت بها دموعها، فنكست رأسها وهي تقول:
- بالرغم من أنك أحدثت بي شروخًا عديدة، إلا أن حبي لك كان أقوى، لقد تعايشت مع تلك الشروخ، داويتها جميعها حتى التأمت. (رفعت نحوه وجهًا كساه الحزن) هل تذكرها؟
وضع كفه على فمها كل لا تدميها تلك الذكريات الأليمة، فطبعت قبلة على باطن كفه، قبل أن تقول:
- لا تبالي، لقد نسيتها لحظة أن عدت إليَّ.
هدأت دقات قلبه، وراحا معًا يراقبان ذلك الصراع بين الموج وصخور الشاطئ، لم ينل أي منهما من الآخر، فلا تزال الأمواج تصطدم بالصخر، ولا يزال الصخر صامدًا يواجه الموج الثائر في جلد يحسد عليه.
تناولت إحدى الحصوات، وألقت بها في الماء وراحت تعدو نحو البحر، رمت بنفسها على مائه، كانت الأمواج على ظهرها الممدد على صفحة الماء وهي تنحسر عن شاطئه أشبه بشريط سينمائي يدور بالعكس؛ يبدأ من النهاية إلى البداية.
- هل يمكن أن نحيا الحياة من آخرها، ونسير بها إلى أولها؟
رغم غرابة الفكرة إلا أنها راقت له.
كانت زوجه تلوح له بيدها ليتبعها، شعر بخفة وهو يداعب الأمواج كيف حرم نفسه من كل هذه السعادة كل تلك السنوات العشر المنصرمة؟!
- لاحظت زوجه شروده، اقتربت منه، همست في أذنيه قبل أن تغمر جسدها بالماء:
- عش اللحظة، ولا تعاتب الماضي.
- الماضي عندي، غيره عندك.
- الماضي عندي هو ذكرياتنا معا، أما الماضي عندك، فهم ثأرك الذي لن تناله، وخصمك الذي لن تظفر منه.
قبل أن ينبس ببنت شفة، أتت موجة وحطمت قصرهما الرملي، ضحكا معا وراحا يبنيان معًا قصرًا آخر، ولا يباليان بالموج وهو يحطمه بل راحا يرميان الموج برمل الشاطئ ويضحكان.
شعر معها أنه صار أكثر شبابًا؛ كأنما طرح من عمره عشر سنوات دفعة واحدة.
عندما عاد إلى الفندق ألقى بثيابه كلها استبدل بها أخرى أكثر شبابًا شاركت زوجه في اختيارها له.
لم ينقم على الماضي فقد جعله يقدر اللحظة الحاضرة ويحافظ على حبه ربما لو تزوج بها قبل عشر سنوات لكانا الآن قد افترقا؛ كانت ثمة تحديات أقوى من تحملهما وقتذاك، وأكبر بكثير من حبهما الوليد آنذاك. عندما بزغ الفجر، طوى صفحة الأمس، وراح يستقبل ـ في حبور ـ أنداء الفجر الوليد.
