كبد الحقيقة.. قصة قصيرة للأديبة سهير إدريس
كتب - د.سعيد محمد المنزلاوي
سهير إدريس، أديبة متميزة وفريدة، تتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، تكتب الشعر والقصة القصيرة، بجانب كونها أوبرالية ومحاضرة قديرة. صدر لها ديوانان «عناق الدار»، و«حضن العراء»، يتميز عالمها الأدبي بالثراء، وتداخل الأجناس الأدبية، والذي ينم عن ثقافة عريضة متعددة الروافد، فهي أديبة من العيار الثقيل، ولها حضور مؤثر في الندوات الثقافية والصالونات الأدبية.
حين تمسك بالقلم، من تجيد العزف على أوتار الكلمات، من تمتح من معين التراث، من تجيد التحليق بلغة شعرية، من تكسو الكلمات ثوبًا فضفاضًا، تتسع رقعته لتداخل الأجناس، وتفاعلها، لتمازجها وتآلفها، من تملك المقدرة على الغوص وراء الكلمات؛ لاستخراج نفائسها، واستدرار كوامنها، من تضرب بعصاها فتفجر في الكلمات إيحاء نشوانا وحياة نابضة، ترقى بالمعنى وتسمو بالإحساس. إذن فنحن أمام حالة أدبية خاصة، وموهبة إبداعية متميزة.
والآن مع تلك الدرة الأدبية، والأديبة الدرة، «كبد الحقيقة» كان متهدجاً ذاتَ مساء في مصباحِ ألمِه الدُرّىّ، يصارع أمواجَ الصخب، مترنما في تسابيحها الهوجاء الغائصة في مراقد الزَلل، والدمع يتقطرُ من عيونٍ أرّقها الغيابُ ووحشةُ الفراق، نادى بملء فيه: أين أنتِ يا مهجة الروح، أين السبيل إلى مساكن اللقاء ومنافذ الاحتواء، وهل يعز علينا اللقاء بعد طواحين المرار التي أثقلت كأهلي.
وأفنت مواردي، لم أكن ذلك المحب الذي تهواه أفانين عشقِها المرمري ، لم أكن أمتلك عصا موسى لتغيير مسار الهوية وتذليل مصائب الدهر، لم أكن يونس لأحتمي ببطن الحوت وأفرّ من المجهول، لم أكن آصِفَ لتفسير مسمى هذا الحدث المروّع، لم أكن كنعانَ يلهو عاصياً آوياً لجبلٍ يعصمه من الماء كى نغرقَ سوياً كعُصاةٍ لكن أحباء.
فهل لي حكمةُ سليمانَ لتذليل جماجمِ مطامحك أيها السراب دع مسالكي تنحَّ جانباً لا تحاصرني كذئبٍ لا يقدم اعتذاراً، قبيلَ التهام فريسته، أيها المحال لِمَ أضنيتني وأضعتَ من قلبي المنال، فهل ثَمّةَ ولوجٌ لجمل في سَمّ الخِياط؟، رجاءً لِترضخي لنداء قلبي، انزعي رداءً دنِس الكِبر، وشاطري فنجاناً أسيراـ يلثم شِفاهاً جَفاها الرحيق.
وكأساً ظامئاً فارغاً باحثاً عن آبار الارتواء، فهل لسليمانَ أن يُعيِرني خاتمه لأمتلك فؤادَ هذه العنيدةَ المرابطةَ لموقفِها تشاطره كل بينة، تؤازره في كل تنهيدة، هل لي أن أفسر أحداث القدَر وتدابير الزمن في رواق أعاصير خواطري، قد أصبتُ كبِد الحقيقة، ورأيتُ بريقاً يخترق مقلتي ينادي هيامي التائه منذ زمن بعيد، هذا البريق كنتُ له متابعا، فإذا بها تتدلى بتاجها المزركش كأنها أميرة الدلال.
مضمخةً بهذا الثمِل الولهان وبرمقةِ زرقاءِ اليمامة في حِدّتها ، تحتمى بثيابٍ فضفاضةٍ تخترقُ كلَّ اتجاهات البوصلة بخطواتٍ مهندمةٍ في نعالٍ فادحةٍ كصهيلٍ يشقُّ آذان الرابضين، سألتها هل أنتِ هي أم ذلك هاجسٌ قد اعتراني، أم لعلى امتلكتُ خاتم سليمان، فردت قائلةً: نعم أنا هي، لِم استدعيتني وأرّقتَ مرقدي وأضجرته ، حتى أتيتُكَ على غير إرادتي وأنا في وضعية قَوس قزح؟
فنظرتُ إليها والتقطتُ أنفاسي المنهكة من هول المفاجأة، هل الهيام والوحي أحن علىّ من هاتِهِ الغازيةِ لمكامن قلبي ونوارس أنسي صائدةِ القلوب، ولا زالت كل المشاهد والأحداث متعاطفةً معي إلا قلبُ هذه الأميرةِ المتوجةِ على عرش الأفئدة، لم يكن لمهباجها صدى إلا على رأسي وقلبي.
وكأنه صُنِع خصيصاً لأجلى، لقد خارت مجاديفي واختلت موازيني، ناديتها هَلُمّي إليّ لتطبيبِ وجيعتى وإزاحةِ ثِقَلٍ أدمى مقصدي، قالت أنا لا أبالي بنقيق حزنِك المخيّم على شفق منهلي، سأظل في بوتقة آمالي التي لم تُؤتكِ يوما، قلت لها إذاً انصرفي، قالت لا أستطيع، فقلتُ في نفسى: فلماذا لا تستطيع؟، لقد ساورتني الحيرةُ وعصفت بى الشكوك، هل ياتُراكَ تحبني وتكابر؟، هل تتخذ العناد نهجاً تنهجه؟
أم إنها قد صارت لَعوبةً بعواطفي تؤرجحني يميناً وتعيدنى يسارا؟، رجاءً انصرفي، لا تعاودي المجيء، دعيني وشأني في تباريح الانهزام وهاوية السقوط وشراشفِ الأشجان، فعروشُ نخلي خاويةٌ أصابها وهجُ افتقارٍ قد أشعل شيب رأسي قبل أوانه حتى ودّعت نبضَ الاخضرار، وأنا أواعد الذبولَ في مرارة اصفرار، فإلى أين يسير الملتجأ، وإلى أين يكون الفِرار؟، حينها سمِعت صوتاً آخر، وكأن شخصاً آخر على مقربة.
منا يقول: لا لن أنصرف ، كيف أتركك في سويعاتِ الليل وآنائِه؟، أخبرني يا صهر مواجعي ومِلح مدامعي، لقد هشّمتَ أسوارنا بعد سمو وارتقاء، وأشعلتَ نار الأصفادِ في قلبي الأسِيف، إنه صوت نابع من جهةٍ أخرى ليس لها، فإذا بي أهتز بوخزة يدٍ بعيدةٍ عني، لكن لم تتحرك شفاها حينئذ، كيف لي بهذا الاهتزاز ؟، إني سمِعت هذا الصوتَ.
يناديني ثانيةً: كيف أترككَ وأنت تثرثر طوالَ هذا المساء حتى تأرّجَ الفجرُ وَضَاءَ النهارُ بازغا، قم استيقِظ من منامك خائنَ العشرةِ وباخعَ القلبِ حتى صار كدميةٍ رثيثةٍ لاقيمةَ لها، أيها الجاحدُ روافدَ الوصال قاطبة، لم أكن حبيبتَك، أنا زوجتك، لقد أفشيتُ سرّك في جُنحِ الظلام واختلاسةِ المنام، هذا صنيعكَ العجيب سيدى أسيرَ الغرام !!!