recent
أخبار ساخنة

في 30 يونيو كُتب التاريخ بأيدي أصحابه

 

في 30 يونيو كُتب التاريخ بأيدي أصحابه

في 30 يونيو كُتب التاريخ بأيدي أصحابه


بقلم: حسن سليم

رئيس التحرير

ليست كل الأيام سواء، ولا كل التواريخ تتساوى في وقعها وتأثيرها. فبعض اللحظات تُكتب بمداد التاريخ، ويكفي أن يُذكر رقمها حتى يستحضر الناس معها رائحة الشوارع وصوت الهتاف وضربات القلوب الخائفة والصلبة معًا. إن يوم الثلاثين من يونيو ليس فقط منعطفًا سياسيًا، بل شهادة وجود لأمة رفضت أن يُدار حاضرها بغفلة، وأن يُكتب مستقبلها بأقلام لا تمثلها.


إن التأريخ لثورة 30 يونيو ليس مجرد حكاية عن انتقال السلطة، ولا هو سجال بين طرفين متنافسين على الحكم، بل هو توثيق لأعمق ما في الذات المصرية من شعور بالمسؤولية الجمعية، وإرادة تحركها غريزة البقاء لا على المستوى الفردي، بل على المستوى الوجودي للدولة. لقد خرج المصريون عن بكرة أبيهم، لا بدعوة حزب، ولا بتحريض قوى، بل استجابة لنداء صامت صرخ في صدورهم: الوطن في خطر.


ولأن مصر عبر تاريخها الطويل لا تُحكم إلا بتوازن دقيق بين السلطة والشعب، بين هيبة الدولة وحكمة الجماهير، جاءت لحظة 30 يونيو لتعيد تصويب هذا الميزان بعد أن اختل. حينما شعرت الأغلبية العظمى من المصريين أن أدوات الحكم انتقلت من يد الشعب إلى عصبة ضيقة تجيد الخطابة ولا تملك أدوات الإدارة، تدّعي امتلاك الحقيقة بينما تقصي وتهمش كل من سواها.


لقد ولدت ثورة 30 يونيو من رحم لحظة فارقة، لحظة لم تعد فيها الشعارات تكفي، ولا الصمت يغني، ولا الانتظار يجدي. لحظة أدرك فيها الجميع أن دولة عمرها سبعة آلاف عام لا يمكن أن تصبح مختبرًا لتجارب أيديولوجية لا تعترف بالوطن إلا على أنه مرحلة نحو غاية أكبر.


خرج الناس لأنهم شعروا بأن مصر تختزل في جماعة. خرجوا لأن ملامح الهوية بدأت تبهت، ولأن وجوه الإدارة غابت خلف حجاب التنظيم. خرجوا لأن مشهد الدولة بدا هشًا، ولأن خطاب التهديد صار يوميًا، ولأن فكرة الانقسام المجتمعي تحولت من مجرد تخوف إلى واقع. خرجوا ليستعيدوا الدولة.


ولأن مصر تدرك بالفطرة أن الوطن لا يبنى بالصراخ، بل بالوعي، فإن هذه الثورة، ورغم حدتها، لم تكن دموية، بل كانت منضبطة بقدر ما كانت غاضبة. مشهد الملايين التي ملأت الميادين لم يكن فوضى، بل نظامًا جماهيريًا محكومًا بأمل عميق: استعادة الدولة لا إسقاطها.


وحين وقفت القوات المسلحة، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح السيسي آنذاك، تُصغي جيدًا لصوت الناس، لم تكن تنقلب على شرعية، بل كانت تنحاز إلى الشرعية الحقيقية: شرعية البقاء، شرعية الحلم، شرعية التمثيل الشعبي. ففي الفقه السياسي كما في منطق الدولة، لا يمكن لشرعية الصندوق أن تكون أقوى من شرعية الوجود.


لقد اختبرت مصر لحظة كانت فيها كل السيناريوهات مفتوحة. وكان في مقدورها أن تنزلق إلى فوضى عارمة، كما حدث في تجارب إقليمية أخرى، لولا أن وعي المصريين كان أكثر اتساعًا من كل نظريات التفكيك، ولولا أن جيشها أدرك منذ اللحظة الأولى أن حياده لا يعني الصمت، وأن وظيفته لا تقف عند حماية الحدود، بل تمتد لحماية الكيان الوطني.


وما يميز 30 يونيو أنها كانت لحظة اصطفاف وطني شامل، لم تقسم الناس إلى ثوار وفلول، أو نخبة وعوام، بل جمعت تحت رايتها الجميع: المسلم والمسيحي، العامل والفلاح، الشاب والشيخ، الرجل والمرأة. كانت اللحظة التي ذاب فيها التصنيف، وتبخر فيها الانقسام، ليبقى الكيان الجمعي: المصري.


ومع أن السنوات التالية شهدت تحديات كبرى، من إرهاب في سيناء إلى مؤامرات خارجية لا تتوقف، إلا أن مصر، بقوة هذه اللحظة، عبرت فوق كل الأمواج. وما تحقق بعدها من إصلاحات اقتصادية، ومشروعات قومية، واستعادة لدور مصر الإقليمي والدولي، لم يكن ليحدث لولا أن الأرض قد عُبدّت بإرادة الشعب في 30 يونيو.


ولعل ما يحسب لهذه اللحظة أيضًا، أنها أسست لفكرة أن الشعب هو حجر الزاوية، وأن من أراد أن يحكم مصر، عليه أن يحكمها بوعي شعبها، لا بخطاب عقائدي أو ولاء تنظيمي. فلا شرعية تستمر ما لم تترجم طموح الناس إلى سياسات، وما لم تجعل من كرامة المواطن أولوية.


وفي كل عام، حين تحل ذكرى الثلاثين من يونيو، نسترجع ليس فقط وقائعها، بل نسترجع روحها. نستعيد ذلك الحماس العارم الذي جعل من المواطن العادي زعيمًا للحظة، ومن الميادين برلمانات مفتوحة تقرر مصير الدولة. نستعيد أن الحلم حين يسرق، فإن الأمة قادرة على استرداده.


ثورة 30 يونيو، إذن، لم تكن صرخة غضب عابرة، بل كانت لحظة وعي متقد. لحظة قرر فيها المصريون أن وطنهم لا يباع، وأن الدولة لا تكون إلا لهم، لا عليهم. لحظة جسدت أن الأوطان لا تموت طالما أن شعوبها مستيقظة.


واليوم، بعد أكثر من عقد على هذه الثورة، لم تعد مصر فقط أكثر استقرارًا، بل باتت أكثر وعيًا. وها نحن ندرك، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الوطن لا يصان بالشعارات، بل بالمؤسسات. وأن المستقبل لا يكتب بالحنين، بل بالعمل.


إن الثلاثين من يونيو، بالنسبة للصفوة والساسة قبل العامة، ليست فقط مناسبة للاحتفال، بل لحظة تأمل عميق: كيف نجحت مصر حين توافقت إرادة شعبها مع مؤسساتها؟ وكيف تجاوزت مرحلة دقيقة كادت أن تعصف بالجميع؟


من هنا، فإن الأمانة تقتضي أن نبقي على هذه اللحظة حيّة في وجداننا، لا لنعيش أسرها، بل لنستلهمها. فكما أن هناك خطرًا من نسيان الجراح، هناك أيضًا خطر من نسيان الانتصارات.


ويبقى أن نقول إن كل نداء في ذلك اليوم، وكل يد ارتفعت في الميدان، كانت تُكتب بها سطور جديدة في كتاب التاريخ. سطور لن تنسى، لأن من كتبها لم يكونوا ساسة ولا كتّابًا، بل شعبًا قرر أن يصنع مستقبله بنفسه.


فهل هناك ما هو أعظم من أن يُكتب التاريخ بيد أصحابه؟


google-playkhamsatmostaqltradent