الهموم بقدر الهمم PDF
بقلم: د. خالد البليسي
في عالم تموج فيه الأحداث وتتزاحم فيه المشاغل، تختلف هموم الناس باختلاف هممهم، وتتباين أهدافهم بحسب نظرتهم للحياة وموقعهم في مسرحها الكبير. وبين من يعيش لنفسه فقط، ومن يختار أن يحمل على عاتقه هموم دينه ووطنه وأمته، يُصنع الفرق الحقيقي بين من يُذكر ويُخلَّد، ومن يمر كعابر سبيل لا يُعرف له أثر.
هناك صنف من الناس يعيش حياته منغلقًا في دائرة ضيقة لا تتجاوز حدود ذاته وأسرته، ينشغل بلقمة العيش وتحصيل الراحة، ويحسب أن النجاح أن يمتلك بيتًا ومصدر رزق مستقر، وربما سيارة حديثة، ورحلة صيفية هنا أو هناك. لا بأس بذلك، فهذا حق مشروع، لكن حين تكون هذه الغاية الوحيدة من الوجود، فإنها تصبح حياة محدودة، ضئيلة في معناها وإن بدت مريحة في ظاهرها. يعيش صاحبها صغيرًا ويموت صغيرًا، لا تذكره الأوطان، ولا تبكيه القضايا، ولا يشعر برحيله أحد سوى أفراد أسرته، وربما الجيران الأقربون.
أما الفريق الآخر، فهم أولئك الذين قرروا أن يعيشوا حياة ذات رسالة، أن تكون أيامهم ميدانًا للبذل، وساعاتهم جسرًا يعبر به الآخرون إلى بر الأمان. أولئك الذين لم يقفوا عند حدود الذات، بل تجاوزوها إلى آفاق أرحب، فحملوا هم الدين، وسعوا لنصرة قضايا الوطن، وأشعلوا شموع الأمل في دروب أمتهم. هم الذين تؤرقهم أحوال المظلومين، وتحركهم آلام الفقراء، ويدفعهم وجع أوطانهم إلى العمل والبناء والإصلاح.
هؤلاء لا تلهيهم رفاهية ولا تُخدرهم راحة، لأن الهم الذي يسكن أرواحهم هو هم سامٍ، عزيز، همُّ الأمة والدين والمجتمع. تجدهم في ساحات العمل المجتمعي، وفي ميادين التطوع، وفي طليعة كل حراك إصلاحي. لا يسعون إلى شهرة ولا مجد شخصي، بل يدفعهم الإيمان العميق بأن الإنسان الحقيقي هو الذي يُضيف شيئًا للحياة، لا الذي يستهلكها فحسب.
إن الهموم التي يحملها الإنسان ليست عبئًا كما يظن البعض، بل هي عنوان لهِمّته، ودليل على سعة أفقه ورقي روحه. وكلما علت الهمة، كبرت الهموم، وصار القلب أوسع من أن يسعه وجع شخصي، بل ينبض بهموم الآخرين. وهنا يصدق القول: "الهموم بقدر الهمم".
إننا اليوم، في زمن تموج فيه التحديات وتتوالى فيه المحن، أحوج ما نكون إلى أصحاب الهمم العالية، إلى الذين يعيشون للدين والوطن، لا الذين يكتفون بالمشاهدة والتعليق من بعيد. فالأوطان لا تُبنى بالتمنيات، ولا تنهض بالأحلام وحدها، بل بالجهد والبذل والتضحية.
والتاريخ لا يخلّد المتفرجين، بل يكتب سطوره من عرق العاملين، ودماء المناضلين، وكلمات الصادقين. فاختر لنفسك موقعك في هذه الحياة: هل تكون من أولئك الذين عاشوا وماتوا صغارًا، أم من الرجال الذين وسعتهم هموم الأمة، فسمت بهم الهمم إلى معالي الأمور؟
ختامًا، تذكَّر دائمًا أن الحياة قصيرة مهما طالت، وأن قيمتك فيها ليست بما تملك، بل بما تمنح. فليكن همّك كبيرًا، حتى تكون حياتك عظيمة، ولتكن همّتك عالية، لتكتب اسمك بين الكبار. فـالهموم بقدر الهمم، والرجال مواقف، لا أعمار ولا أعذار.