recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

العُرْيُ PDF

 

العُرْيُ PDF

العُرْيُ PDF


بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي


أشد ما يصيب الإنسان بالخجل أن يتعرض لموقف يتعرى فيه جزء من بدنه لا يصح أن يبرز للعيان، أو يخدش حياءَه لفظٌ خارج أو فعل لا يليق، أو تصدر عنه نقيصة خَلقية أو خُلقية، أو يقترف جُرمًا أو إثمًا.


كذلك يتعرَّى الإنسان عندما يبتغي مصاهرة الآخرين؛ فينكشف من أمره ما كان مستورًا، ويظهر من حاله ما كان متواريًا، ويتم تداول عَورِه وعَوراته على مرأى ومسمع كل مَن يمت إلى الأمر بصلة أو لا يمت، وتبدأ وصلات القِيل والقال تعزف هنا وتعزف هناك.


فأنت مستور ما انغلقت على ذاتك وانكفأت على نفسك، عارٍ إذا خرجت عن حدود ذاتك ومحيطك، أو سعيت لبناء جسور التواصل مع الآخرين.


وهناك مَن يتعرى أمام الآخرين، دون أن يشعر بالخجل، أو يحاول أن يستر من انكشف من سوءاته، يسرد على الآخرين ما اقترفته يداه، وما جناه في غفلة عنهم، فإذا به يهتك ستر الله، ويفشي ما انتهك من محارم الله، فهذا حسبه أن يرفل في الذل والهون والصغار.


وهناك من يغرق لأذنيه في الذنوب والمعاصي، فيُحرم من الستر؛ إذ الذنوب قرينة العري، تعري صاحبها عن حسناته وتجرده عن آدميته، وتحرمه من نعمة الستر، فكلما عصى الإنسان ربه، كلما انكشف شيء من عوراته، وزالت عنه نعمة الستر، فأنت مستور ما أطعت الله، فإذا عصيت ربك، هَتكت المعصيةُ سترَ الله عليك.


نظرة عجلى في مجتمعنا، فنرى كثيرًا من العورات والسوءات تُعرض على الطرقات، وداخل الحوانيت والبيوتات، وساحات المحاكم والقضاء، فنرى من تعرى عن الغنى، فأمسى فقيرًا معدمًا، يمد يده للمارة، ربما كان هذا الفقير ذا مال يومًا ما فأكل ظالم ماله، أو اغتصب أرضه وميراثه، أو نهب عرقه وأجرته، أو جارًا تخلى عنه في أزمته، أو قريبًا تنكر له، فلم يرعَ حرمة الجوار أو حرمة النسب، أو زوجة لم تصن عشرة زوجها، أو زوجًا لم يفِ لتلك الأسيرة في بيته، ولم يصن لها حرمة، أو إخوة أشقاء، رضوا بأن تنفصم عراهم، وتقع بينهم القطيعة، من أجل ثلة من الأموال، طمع فيها بعضهم، وحرم البعض الآخر.


فما ظهرت عورة في المجتمع، إلا وأشارت بإصبعها على مَن ارتكب تلك الجرائم في حق الإنسانية. فالعري هنا دليل اتهام للإنسان على خسته ونذالته، بل وانحداره لدرجة أدنى من درجة الحيوانية؛ فالحيوانات من نفس الفصيلة لا تخون ولا تقامر بمستقبل أحد، ولا تغامر بحياة جيل كامل، ولا تغرر بمن وثق فيهم وأمنهم.


المتاجرة بالعري

وهناك مَن يتاجر بعريه؛ كأولئك الذين يتسولون بأمراضهم - صدقًا وكذبًا - ومَن يتسولون بعاهاتهم، بل إن البعض منهم يتعمد تشويه جسده ببتر أو نحوه؛ ليستدر أموال الناس، وكل ذلك من صور أكل أموال الناس بالباطل. وتجد نفسك في موقف حيرة، هل تعطه أم لا، فأنا وأنت لم نشق عن قلبه، وليست لنا فراسة؛ لنعرف صدقه من كذبه. ولكن لو تكفل كل منا بفقراء عائلته، بالمساكين من جيرانه، بالغارمين ممن يعرف، بالمحتاجين بحق؛ ما وجدنا سوأة امرئ قط، ولخلت شوارعنا ومياديننا ومساجدنا من المتسولين، بل وانحسرت تلك الظاهرة على ثلة من العاطلين والمستغلين طيبة الناس وسذاجتهم، ومن ثَمَّ أمكننا التصدي لهم ومواجهتهم.


 فأنا وأنت وأغنياؤنا مسئولون مسئولية كاملة عن ظهور العورات في المجتمع من حولنا، وانتشار صور الابتزاز باسم الرحمة والإحسان والصدقة والشفقة.


وعندما نسعى على نشر فضائح غيرنا، وتصيد الأخطاء لبعضنا، فكلنا عرايا. وعندما نتلمس مساوئ الآخرين ونتصيد أخطاءهم، أو نسوقهم إليها سوقًا، فكلنا عرايا. عندما نهتك سترنا أو سترنا بعضنا، ونفتضح على مواقع التواصل، فكلنا عرايا. عندما يتخلى الأخ عن أخيه، ويبيعه بثمن بخس، أو يتاجر الصديق بأزمة صديقه، أو يضحي الوالدان بأبنائهما أو يتخلى الأولاد عن آبائهم، وهم في أمس الحاجة إليهم، فكلنا عرايا. وعندما نخلع أثواب الحياء، ونتجرد عن قيمنا ومبادئنا، ويتساوى لدينا الحلال والحرام، وتكون كل الطرق مشروعة من أجل تحقيق مطامحنا ومطامعنا، فكلنا عرايا. وعندما تكون الغاية تبرر الوسيلة أيًّا كانت؛ فنستحل الحرام، وننتهك الحرمات، وندوس بنعالنا على الضعفاء والشرفاء والأبرياء، فكلنا عرايا. وعندما نصمت ونحن نشاهد العري من حولنا، ونرضى بسوءاتنا، ولا نخجل من تجردنا من القيم والمبادئ والأخلاق، فكلنا عرايا.


ولا شك أن وجود العري في المجتمع، يعد خللًا شنيعًا، يهدد أمننا وسلامنا، ويأتي على البقية الباقية من أخلاقنا وقيمنا، ومن ثَمَّ كانت مهمة التصدي له ومسئولية مواجهته ومجابهته، تقع على عاتق الجميع أفرادًا ومؤسسات، هي مسئولية الإعلام والفن ورجال الدين والتربويين والمربين، كما أنها مسئولية الآباء والأمهات.


فبدلًا من أن يجري الإعلام لالتقاط تلك السوءات وإشاعتها، ويعمل الفن على تزويدنا بها؛ لتكون مستساغة ومن ثمَّ نقبلها، مع صمت رجال الدين والعلم، ورضا الآباء أو خرسهم وعجزهم وتخليهم عن دورهم من الرعاية وتعديل السلوكيات وغرس القيم والمثابرة عليها.


فلابد من ثورة تصحيح للأوضاع، فتعود لرجال الدين هيبتهم ويتقلدون مكانتهم ومنزلتهم؛ لينهضوا بدورهم العظيم في غرس المبادئ ونشر القيم والفضيلة، والتصدى لكل رذيلة. ويكون للفن دوره العظيم في السمو بالذوق والجمال وسمو الإحساس ونقائه. لابد من تربية الأولاد؛ ليكونوا آباء وأمهات على درجة عالية من الوعي والمسئولية والأمانة.


لابد أن نتكاتف جميعًا لمواجهة العري، والتصدي لكل من تسول له نفسه أن يعرينا عن قيمنا، وأن يجردنا عن إنسانيتنا، وأن ينزع عنا سترنا.


google-playkhamsatmostaqltradent