التحديات الأسرية في ظل قانون الأحوال الشخصية
بقلم: حسن سليم
تواجه الأسر اليوم مجموعة من التحديات المرتبطة بتطبيق أحكام قانون الأحوال الشخصية، مما أثار نقاشاً واسعاً حول تحسين آليات التنفيذ وضمان تحقيق التوازن بين حقوق الأطراف المختلفة، ذلك القانون الذي تحوّل من مظلة حماية للأسرة إلى أداة قد تهدد تماسكها وتضع الآباء والأمهات في مواجهات مستمرة على حقوقهم وحقوق أطفالهم. فقد ارتفعت نسب الخلع والطلاق إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبحت البيوت تهتز تحت وطأة النزاعات القضائية، حتى باتت منصات التواصل الاجتماعي تعج بصراخ الآباء المظلومين الذين يشتكون من الحرمان من رؤية أبنائهم ومن مصاريف نفقات تتزايد بلا توقف، في ظل شعور عميق بالظلم والاستغلال القانوني.
تتجلى مأساة الكثيرين في منشورات يومية ينشرونها مستخدمين كلمات مؤثرة تكشف حجم المعاناة. يقول أحدهم: "حسبي الله ونعم الوكيل، لا أستطيع أن أرى ابنتي، أي قانون هذا الذي يحرم الأب من حضن صغيرته؟"، فيما كتب آخر بحرقة عن حياته الزوجية قائلاً: "معقول أن يكون زواجي وإنجابي سبب زلتي وبهدلتي؟"، وهناك من استشهد بدموع نبي الله يعقوب على يوسف ليؤكد أن حرمان الأب من أبنائه ظلم لا يقبله العقل ولا الشرع، مشيراً إلى أن "من لم يعرف دموع الأب على ابنه فهو باطل، ومن حرم الأب من أبنائه فهو باطل".
لم تعد هذه الأصوات مجرد انفعالات فردية، بل تحولت إلى حملات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب الحكومة والسلطات المختصة بإصلاح القانون بما يحقق العدالة ويوازن بين حقوق الأب والأم، ويحفظ مصلحة الطفل في المقام الأول.. ومن بين المطالب الرئيسية، تخفيض سن الحضانة وفق المذهب الحنفي إلى سبع سنوات للولد وتسع سنوات للبنت، وترتيب الأب مباشرة بعد الأم في حال زواجها أو وفاتها، وتفعيل حق الاستضافة يومين على الأقل أسبوعياً، لضمان تربية سليمة ومتوازنة للأطفال، مع وضع آليات صارمة لمعاقبة من تمنع تنفيذ قرارات الاستضافة.. كما تطالب هذه الحملات بتحويل قضايا "تبديد المنقولات" من الجزاءات الجنائية إلى مدنية، حتى لا يتعرض الأزواج للاعتقال أو الغرامات غير العادلة، ما يخفف الضغط النفسي والمادي على الأسر ويحد من حالات الطلاق للضرر.
إن جوهر المشكلة لا يقتصر على حقوق الآباء أو الأمهات، بل يمتد ليشمل الطفل الذي غالباً ما يكون الخاسر الأكبر في نزاعات الوالدين.. فالحرمان من أحد الوالدين، أو التلاعب بمواعيد الزيارة والاستضافة، يترك آثاراً نفسية عميقة، تتخطى الطفولة إلى مراحل لاحقة من الحياة، فتنشأ أجيال غير متوازنة عاطفياً واجتماعياً، وتكون عرضة للإحباط والانعزال. وقد أصبح واضحاً أن استمرار هذه الأوضاع سيؤدي إلى مزيد من التفكك الأسري وانتشار ظواهر اجتماعية مقلقة تهدد النسيج الاجتماعي للمجتمع.
لذلك، بات من الضروري أن تتبنى الدولة حواراً مجتمعياً شاملاً، يجمع بين علماء الدين والقانونيين والخبراء النفسيين ومنظمات المجتمع المدني، لصياغة قانون عصري يعيد التوازن بين حقوق الأب والأم، ويضع مصلحة الطفل في قلب كل قرار. كما يجب أن ترافق هذا التشريع آليات تطبيق واضحة وشفافة، تشمل الرقابة القضائية والمجتمعية، لضمان أن تكون جميع الإجراءات عادلة وأن تُتاح الفرص المتساوية لكل الأطراف دون أي تحيز أو استغلال.
إن صدى هذه الأزمة اليوم تجاوز حدود الفضاء الافتراضي، وأصبح قضية وطنية تهم كل بيت، لأن استمرار الوضع الراهن يؤدي إلى تآكل الأسرة، وهي الخلية الأساسية لبناء المجتمع. وإذا أردنا مجتمعاً قوياً ومتماسكاً، فعلينا أن نحمي الأسر من التشظي وندعم الآباء والأمهات في أداء واجباتهم تجاه أبنائهم.. فالطفل الذي ينشأ بعيداً عن أحد والديه، أو في صراع دائم على حقوقه، لن يكون قادراً على المساهمة في المجتمع بشكل إيجابي، ولن يتمكن من تحقيق إمكاناته الطبيعية.
إننا بحاجة اليوم إلى إصلاح شامل لقانون الأحوال الشخصية، يوازن بين الحقوق والواجبات، ويمنح كل طرف الحق في ممارسة دوره الطبيعي داخل الأسرة، بعيداً عن أي ظلم أو تحيز. فالأسرة هي العمود الفقري للمجتمع، وأي تشويه لهذا العمود يعني تهديداً للمجتمع بأسره. وعليه، فإن إعادة النظر في القانون ليست رفاهية، بل ضرورة وطنية وأخلاقية تضمن أن يعيش كل أب وأم وأبناؤهم حياة كريمة، في ظل احترام القانون والعدالة الاجتماعية.
