recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الفرار من الله إلى الله

 الفرار من الله إلى الله




كتب/ التميمى الحبال

إن الناظر اليوم بعين البصر والبصيرة في واقع الأمة الإسلامية وما حلَّ بكثير من أبنائها من بُعدٍ عن الله عز وجل ، ونسيانٍ للآخرة ، وانغماسٍ في الملذات ، وإقبالٍ على الدنيا واللهث وراءها والانغماس في متاعها ، مما أدى إلى انتشار كثير من الموبقات والفواحش المهلكات في مجتمعات المسلمين ، الأمر الذي يستدعي من الغيور على دينه الذي يرجو النجاة لنفسه ولأبناء أمته أن يصرخ فيهم بأعلى صوته قائلا : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات]


أسباب ودوافع الكلام عن هذا الموضوع

- انفتاح الدنيا الشديد ، وطغيان الجانب المادي على حياة أكثر الناس وما ترتب على ذلك من لهث وتكالب على حطامها دون تمييز بين حلال وحرام، وطيب وخبيث.

- الغفلة الشديدة عن الآخرة والغاية التي من أجلها خلقنا ، وتحولت هذه الدنيا الفانية من كونها خادمة ومملوكة إلى أن تكون مالكة مخدومة.

- ظهور المنكرات وانتشار الفساد بشكل ينذر بالخطر والعقوبة إن لم يتدارك الله عز وجل عباده ويرحمهم بالفرار إليه.

- الغربة الشديدة لدين الله  في واقع كثير من الناس ، فلابد من التواصي بالحق والصبر، لعل الله عز وجل ، أن يكشف الكربة ، ويثبت قلوب عباده المؤمنين على دينه. 

      

- التأكيد على الرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التماس سبل النجاة من الفتن والمهلكات ، ولفت الأنظار إليهما بعد أن ابتعد كثير من الناس عنهما.

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِني لَكُمْ مِنهُ نَذِيرٌ مُبِين} [الذاريات]

لماذا جاء التعبير بلفظ (( ففروا )) 

والتعبير بلفظ الفرار عجيب حقا. وهو يوحي بالأثقال والقيود والأغلال ، التي تشد النفس البشرية إلى هذه الأرض، وتثقلها عن الانطلاق، وتحاصرها وتأسرها وتدعها في عقال. 

وبخاصة أثقال الرزق والحرص والانشغال بالأسباب الظاهرة للنصيب الموعود. ومن ثَمَّ يجيء الهتاف قويا للانطلاق والتملص والفرار إلى الله من هذه الأثقال والقيود! الفرار إلى الله وحده منزها عن كل شريك.

- معنى الفرار  وحقيقته

الهروب من شيءٍ إلى شيء، من شيءٍ مخيف إلى شيءٍ آمن، من شيءٍ مزعج إلى شيءٍ مُطَمْئِن.

ولقد حدد الله لك الوجهة ورسم لك الطريق فقال سبحانه:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، نعم إنه الفرار إلى الله ، تفر إلى الله لأن خلفك عدوك إبليس يسعى خلفك جاهداً بكل ما أوتي من قوة ليجعلك من أصحاب السعير أخبرك بذلك ربك وحبيبك يوم أن قال : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر]

فرارٌ من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً  ،،، ومن الكسل إلى التشمير جِدَّاً وعزماً

فرارٌ من الضيق إلى السَعَةِ ثقةً ورجاء ، أن تهرب من ضيق الصدر بالهم والغم والحزن والمخاوف التي تعتري الإنسان في هذه الدار، إلى سعة الإيمان وأُفُقِ الإسلام ورحابة طاعة الرحمن.

فرارٌ من الخوف إلى الطمأنينة، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة.

فالمؤمن يفر من ضيقٍ يعتريه، من ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبره

ولله در الشافعى حين قال:_

وَلَرُبَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى ... ذَرْعاً وعندَ اللهِ منها المخرَجُ

ضاقتْ فلمَّا استحكمتْ حلقاتُها ... فُرِجَتْ وكانَ يظنُّها لا تُفرجُ

- أسباب تحديد جهة  الفرار

أيها التائه ...  أيها المتحير ...  أيها المتباطئ ... أيها الخائف ... أيها العاصي ... أيها المُثْقل بالذنوب والأوزار ... أيها الأسير لشهواته المكبل بالقيود والأغلال ... يا مّن أسره الشيطان ولا يستطيع الخلاص والفرار .... يا من ضاق صدره وأحاطت به الهموم والأحزان : {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ }... أمر وعوة ونداء 

- لأنـــك لن تجد أعظم وأقوى من الله في حفظك من أعدائك

فالإنسان الضعيف لابد أن يلجأ فيما يعرض له من أمور إلى جهة يراها قوية وقادرة على أن تحميه أو توفر له الأمن والاطمئنان، فإلى من يتجه، وإلى مَن يفوض أموره ؟ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر]

ولا ملجأ للعبد  منه سبحانه إلا إليه  فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا- ، أنها سمعت رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول وهو ساجد : (( اللهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ )) 

- لن تجد أكرم وأجود من الله

يا ابن آدم  الكل يريدك لنفسه، والله عز وجل يريدك لك فانتبه لهذا المعنى !

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً )).

وقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (( يَا ابْنَ آدَمَ ، قُمْ إِلَيَّ أَمْشِ إِلَيْكَ ، وَامْشِ إِلَيَّ أُهَرْوِلْ إِلَيْكَ )).

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ ))   لأنه الكريم الجواد.

- لن تجد أحلم وأرحم من الله

أما الآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ومعلومة ، وكذلك الأحاديث وإليك بعضا منها:

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ )). قُلْنَا: لَا، وَاللهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : (( لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )).

عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (( يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ )).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: (( أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ )).

ومعنى الحديث : أي ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك.

وعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، قَالَ: (( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )).

{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِني لَكُمْ مِنهُ نَذِيرٌ مُبِين} [الذاريات]

- ولكنَّ الفرار يقتضي أمورا :

- التأهب الاستعداد

قال تعالى     {وَأَعِدُّوا}     {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ}        {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}

- تأهبوا فإن الأجل قريب.....شمروا فإن الأمر جد

- تزودوا فإن السفر بعيد...........أكثروا الزاد فإن المسافة بعيدة

-أخلصوا النية فإن الناقد بصير.......خففوا الأثقال فإن في الطريق عقبةً كؤود

- جددوا السفينة فإن البحر عميق

- الفرار يقتضي القوة والعزم 

كلمة الفرار تحمل في طياتها معنى الجدية والعزيمة ، والله عزَّ وجل يأمرنا أن نتلقَّى أوامره بالعزم والجد قال تعالى: ﴿خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[ البقرة]


وقال تعالى ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾[ الأعراف] وقال ليحيي عليه السلام ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾[ مريم]


الفرار من الله إلى الله


google-playkhamsatmostaqltradent