recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الانقطاع الكبير في الرابع من أكتوبر

 


الانقطاع الكبير في الرابع من أكتوبر

 





 

"لا يُمكن لأي عدد من مشاهدات البجع الأبيض أن يفضي إلى استنتاج أن جميع البجع أبيض، فمشاهدة بجعة واحدة سوداء تبدو كافية لدحض هذا الاستنتاج"

 

 (ديفيد هيوم “David Hume” – فيلسوف واقتصادي ومؤرخ إسكتلندي، عاش خلال الفترة 1711 - 1776)


في يوم "الانقطاع الكبير" (The Great Outage) الذي وافق يوم الرابع من شهر أكتوبر الجاري، تأثر ما لا يقل عن 2.9 مليار نسمة سلبًا بخروج شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" من الخدمة. ليس هذا فحسب، ولكن الخلل التقني الذي أصاب "فيسبوك" أدى إلى تعطل تطبيقات أخرى شقيقة لذات الشركة، وفي مقدمتها تطبيق التراسل "واتس آب" و"انستجرام".


اللافت للانتباه أن "فيسبوك" قد شهد واحدة من أشد أزمات انقطاع الخدمة عام 2008، لكن عدد مستخدميه لم يكن يتعدى 150 مليون نسمة وقتها. الأكثر من ذلك، جاء هذا التاريخ سابقًا على استحواذ "فيسبوك" على تطبيقي "انستجرام" الذي تم عام 2012، و"واتس آب" الذي شهده عام  2014. هذا بالإضافة إلى حادثة اغلاق "فيسبوك" في أكبر انقطاع له حتى الآن، والتي دامت لمدة 24 ساعة، في عام 2019.


تأسيسًا على ذلك، يُمكن القول بإن حدث "الانقطاع الكبير" يُعدُّ فريدًا من نوعه؛ نتيجة لعظم حجمه، وتداعياته، ونطاق تأثيره. لقد أحدث شللًا في الحياة الرقمية للبشرية على كوكب الأرض. يطلق على مثل هذه الأحداث مصطلح "بجعة سوداء" (Black Swan)، والمُفارقة الغريبة أن الخروج الأخير لـ "فيسبوك" وأخواته عن الخدمة قد وافق يوم اثنين، وهو نفس اليوم الذي شهد العالم فيه بجعات سوداء أخرى. فما المقصود بهذا المصطلح؟ وما أهم هذه الأحداث الأخرى؟ هذا ما سوف تكشفه لنا الأسطر التالية.


البجعات السوداء نادرة الحدوث


عادة، عندما يُذكر اسم "البجعة السوداء"، نتذكر فيلم الإثارة الأجنبي الذي يحمل نفس العنوان، وتم إنتاجه عام 2010، وكانت بطلته الرائعة "ناتالي بورتمان" التي تم اختيارها لتؤدي دورين متناقضين يجمعهما عرض باليه "بحيرة البجع"، وهما دور "البجعة البيضاء" التي تُشبه طبيعتها الرقيقة والحساسة، ودور "البجعة السوداء" الشريرة. ومن هنا، يوحي لون السواد بالأمر السيء الذي ارتبطت به "البجعة السوداء"، من جهة.

 

الانقطاع الكبير في الرابع من أكتوبر



أما الجهة الأخرى، فتعكس الطبيعة النادرة للبجعة السوداء في حدِ ذاتها. وقد نشأ هذا المصطلح نتيجة اعتقاد غربي بأن جميع البجعات بيضاء، لأنها الوحيدة التي كان يتم مشاهدتها. ولكن في عام 1697، اكتشف الهولندي "ويليم دي فلامينج" (Willem De Vlamingh) بجعًا أسود في أستراليا، الأمر الذي كان غير متوقعًا في التاريخ العلمي.


وهكذا، ولما كانت هذه البجعات السوداء نادرة الحدوث، بدأ تشبيه الأحداث النادرة بها، حتى أصبحت شائعة الاستخدام في عالم المال، للتعبير عن حدث سلبي للغاية، يصعب التنبؤ به أو يكاد يكون شبه مستحيل لكونه غير معروف أو غير متوقع. الجدير بالذكر أن السيد "نسيم نيكولاس طالب" (Nassim Nicholas Taleb) قد صك هذا التعبير في كتابه "مخدوع بالعشوائية: الدور الخفي للفرصة في الحياة والأسواق" (Foolded by Randomness: the Hidden Role of Chance in Life and in the Markets) الذي تم نشره لأول مرة عام 2001، مُتحدثًا عن قابلية الخطأ في المعرفة البشرية.


وفي ضوء ما تقدم، يُمكن القول بإن "حدث الانقطاع الكبير" يأتي في زُمرة "البجعات السواء"، ليس فقط لكونه كان غير متوقعًا، ولكن أيضًا لانعكاساته المالية الهائلة. فوفقًا لتقديرات شركة "نت بلوكس" (NetBlocks) – التي تُراقب تعثُّر الإنترنت – خسر الاقتصاد العالمي حوالي 1.1 مليار دولار أمريكي. أيضًا، خسرت شركة "فيسبوك" حوالي 47 مليار دولار أمريكي من قيمتها السوقية، مُتراجعة بنحو 4.9%، فيما انخفضت ثروة "مارك زوكربيرج" مؤسس الشركة بحوالي 7 مليار دولار أمريكي في ست ساعات. في هذا السياق، قد يكون من المثير مقارنة هذا الحدث ببجعات سوداء مالية أخرى، حدثت أيضًا في أيام اثنين في شهر أكتوبر.

 




البجعة الأولى: الكساد الكبير (28 أكتوبر 1929)


لقد شهد ذلك اليوم اثنين أسود بإنخفاض مؤشر "داو جونز الصناعي" (Dow Jones Industrial) – أحد مؤشرات سوق الأوراق المالية الأمريكية - ليُؤذن بانهيار سوق الأوراق المالية الأمريكية وبدء أزمة "الكساد الكبير" التي تعود بداياتها إلى أوائل عشرينيات القرن العشرين (1921-1922). وجاء ذلك نتيجة قيام البنك الفيدرالى الأمريكى بخفض أسعار الفائدة؛ إستجابة لطلب البنك المركزى البريطانى لمساندته فى منع انهيار قيمة الجنيه الاسترلينى. الأمر الذى أدى إلى انخفاض قيمة الدولار الأمريكى مقابل الجنيه الاسترلينى، وانتعاش الاقتصاد الأمريكى. 


وفى بداية عام 1928، قامت السلطات النقدية الأمريكية بانتهاج سياسة انكماشية، لمواجهة الموجة التصاعدية في أسعار الأسهم التي شهدتها سوق الأوراق المالية منذ عام 1926، بهدف كبح الائتمان المصرفى والحد من استخدامه فى موجة "التمويل المُضاربى" (Speculative Finance) التى شهدها سوق الأوراق المالية. وفى 28 أكتوبر 1929، انفجرت فقاعة أسعار الأوراق المالية الأمريكية؛ حيث انخفض مؤشر سوق الأوراق المالية الأمريكية "دو جونز" بنحو 20% ليسجل 300 نقطة، وعلى إثر ذلك فَقد 40% عن نقطة القمة التى كان قد سجلها قبل ذلك بنحو 56 يوم.


وعليه، بدأت حالة الكساد الاقتصادى فى الولايات المتحدة الأمريكية، وانخفض المعروض النقدي وارتفعت أسعار الفائدة. إضافة إلى ذلك، سادت حالة من فقدان الثقة فى عملات دول الاحتياطى، وقامت البنوك المركزية بتحويل عملاتها الأجنبية إلى الذهب.


أيضًا، ارتبطت أزمة الكساد الكبير بإنهيار فى الاقتصاد العالمى، والذي شهد انخفاضًا حادًا فى مستوى الناتج حتى عام 1932؛ حيث سجل نحو 50% فقط من مستواه عام 1929، بالإضافة إلى ارتفاع غير مسبوق فى معدلات التضخم والبطالة. وفى الولايات المتحدة الأمريكية، انخفض مستوى الناتج الحقيقى بنسبة 29% خلال الفترة 1929 - 1933، وسجلت معدلات البطالة نحو 24.9% عام 1933. كذلك انخفضت الأسعار بحوالى 40%، وانهار كل من الإنفاق الاستهلاكى والاستثمارى.

 




البجعة الثانية: الاثنين الأسود (19 أكتوبر 1987)


في هذا الاثنين الأسود، شهدت أسواق الأوراق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية واحدًا من أسوأ أيامها على الإطلاق، انتقل تأثيرها إلى جميع أنحاء العالم. فقد تراجع مؤشر "داو جونز الصناعي" بما يُعادل 22.6% في يوم واحد، منخفضًا بنحو 509 نقطة في جلسة تداول واحدة؛ ليتبخر تريليون دولار أمريكي من قيمة جميع الأسهم الأمريكية المُتداولة. الأكثر من ذلك، سجل الانخفاض في المؤشر 30% على مدار الأيام الثلاث التالية لذلك الاثنين، وأنذر بحدوث كساد كبير آخر.


ليس هذا فحسب، ولكن انتشرت تداعيات هذا الانهيار في أسواق العالم. ففي اليابان على سبيل المثال، تم تسمية الأزمة بـ "الثلاثاء الخافت" (Blue Teusday)؛ حيث شهد اليوم التالي على انهيار البورصة الأمريكية انخفاضًا في مؤشر بورصة طوكيو بنحو 14.9% في يوم واحد، ما تسبب في خسارة 421 مليار دولار أمريكي من القيمة السوقية للأوراق المالية المتداولة. أيضًا، انخفضت سوق الأسهم البريطانية بنحو 23%.

 

تطور مؤشر داو جونز الصناعي الأمريكي خلال الفترة 1987 – 1988 (نقطة)





البجعة الثالثة: انفجار فقاعة أسعار الأصول اليابانية (1 أكتوبر 1990)


فى اليوم الأول من أكتوبر 1990، انخفض مؤشر سوق الأوراق المالية اليابانية "نِيكاي" بحدة ليسجل 20222 نقطة، انتهجت أسعار العقارات المسار نفسه، ليدخل بعدها الاقتصاد الياباني فى حالة ركود منذ فبراير 1991. فى بداية الأمر، كانت حالة التباطؤ الاقتصادى تبدو وكأنها حركة تصحيحية طبيعية لمسار أسعار الأصول، بعد حالة الانتعاش التى شهدتها اليابان لفترة طويلة، إلا أنها كانت فى واقع الأمر بداية مرحلة طويلة من الركود الاقتصادى؛ حيث بلغ معدل النمو السنوى للناتج المحلى الإجمالى خلال الفترة (1992-1998) نحو 1% فقط فى المتوسط.


يُعدُّ هذا الحدث انفجارًا لـ "فقاعة أسعار الأصول" (Asset Price Bubble)، وهي ظاهرة تؤدي إلى حدوث ارتفاعات "غير مبررة" فى أسعار الأصول - أسعار الأسهم والعقارات - لا تستند إلى تحسن مواز ٍفى أداء الاقتصاد الحقيقي، يليها انهيارات حادة فى مستويات الأسعار ، وتتسبب فى حدوث أزمات مالية حادة وحالات من تباطؤ الأداء الاقتصادى.


وبالفعل، انتقلت تداعيات هذه الأزمة المالية إلى مجمل النظام الاقتصادي الياباني؛ حيث انكمش مسـتوى الطلب المحلى، وخاصة الإنفـاق الاستثمارى الثابت لقطاع الأعمال الخاص؛ مما ألحق بالمسـتثمرين خسائر كبيرة خلال النصف الأول من عقد التسعينيات، لتزيد قيمتها عن المكاسب التى حصلوا عليها من الأنشطة الاستثمارية التى قاموا بها خلال النصف الثانى من عقد الثمانينيات. وهكذا، شهد الاقتصاد الياباني حالة من الانكماش، وكانت معدلات نموه خلال عقد التسعينيات موجبة بالكاد، وسجلت فى بعض السنوات معدلات نمو سالبة.

 

اليابان: تطور الرقم القياسي لأسعار الأصول المالية والأراضي خلال الفترة (1989 - 2003)





رسالة ختامية


بعد كل أزمة سوداء، يتساءل كثير من الناس عما حدث؟ ولماذا حدث؟ وما يُمكن القيام به لمنع تكرار هذا الحدث؟ وبالرغم من ذلك، نرى هذه البجعات السوداء على فترات متقطعة. الأمر الذي يشير إلى أهمية مراجعة التاريخ، وتعلم الدرس منه، واسقاطه على معطيات الحاضر، لنستبق حدوثه.


لقد قادت أيام الاثنين الأسود المُشار إليها عاليه – وغيرها - اعتقادًا خاطئًا بشأن "التوقعات العقلانية" (Rational Expectations) لتصرفات الفاعلين الرئيسين ومسارات الأحداث، وأن الأسواق تقوم بحركات تصحيحية، لكن ذلك الافتراض ينبغي التعامل معه بحذر شديد؛ لأن بجعة سوداء واحدة هدمت فرضية كانت سائدة لمئات أو آلاف السنوات، مفادها أن كل البجع "أبيض".


وفي ظل مخاوف عدة يُعاني منها العالم في الوقت الراهن، بداية من أسواق الطاقة، ومشكلات سلاسل التوريد، ومرورًا بارتفاع معدلات التضخم، وضعف النمو، وتعاظم الديون الحكومية، واحتمالات حدوث أعطال تقنية واسعة المدى والتأثير عالميًّا. تبدو أهمية الاستعداد لبجعة سوداء جديدة في المستقبل القريب.


google-playkhamsatmostaqltradent