recent
أخبار ساخنة

إنتاجية البشر ... بين الوباء والتقدم التكنولوجي


 إنتاجية البشر.. بين الوباء والتقدم التكنولوجي


أثرت جائحة كورونا بشكل كبير على مختلف جوانب الحياة، وبينما تسعى الدول والمنظمات لمحاولة قياس مدى الأثر السلبي الذي أحدثته في الاقتصادات من نقص في الثروات، فإن هناك جانبًا آخر بالغ الأهمية ولن يقتصر الضرر الذي أصابه على الوقت الحالي فقط، بل قد يمتد لجيل بأكمله، وهو حجم الفاقد في رأس المال البشري، فقد أثرت جائحة كورونا سلبًا على أنظمة الصحة والتعليم، وهي الأنظمة المغذية لرأس المال البشري، مما سينعكس بشكل كبير على إنتاجية الأجيال القادمة.

يتألف رأس المال البشري من المعارف والمهارات والقدرات الصحية التي يستثمر فيها الأشخاص، وتتراكم لديهم على مدار حياتهم بما يمكِّنهم من استغلال إمكاناتهم لزيادة الإنتاجية، ويساعد الاستثمار في البشر، من خلال توفير التغذية والرعاية الصحية والتعليم الجيد والوظائف والمهارات على تنمية رأس المال البشري، وهو أمر أساسي لإنهاء الفقر المدقع وبناء مجتمعات أكثر شمولًا، وكذلك فإن تقوية رأس المال البشري تساعد على مواصلة نموها الاقتصادي المستدام والشامل للجميع.

ويأتي تأثير الوباء على عملية تراكم رأس المال البشري من خلال عدة قنوات لها آثار مختلفة، فالنكسات التي تحدث خلال مراحل معينة من دورة الحياة - وخاصة الطفولة المبكرة - يمكن أن يكون لها آثار ضارة وطويلة الأمد، فيمكن أن تجبر الصعوبات الاقتصادية الأسر على إعطاء الأولوية لاحتياجات الاستهلاك الفورية، والتخلي عن الإنفاق على الصحة أو التعليم، ولأن الطلب على الاستثمار في رأس المال البشري يرتفع مع زيادة الدخل، فإن الانخفاض في الدخل يمكن أن يؤدي إلى آثار سلبية على تراكم رأس المال البشري للعديد من الأفراد، لا سيما الأكثر حرمانًا.

وقد صمم البنك الدولى مؤشر رأس المال البشرى (HCI) والذي يقيس إنتاجية الأجيال القادمة باستخدام معياري التعليم والصحة، وتكمن أهمية المؤشر في أنه يُظهر مدى قدرة الموارد البشرية من الأجيال القادمة ليكونوا أكثر إنتاجية ومرونة وابتكارًا، حيث إنه يعطي جرس إنذار للدول بنسبة إنتاجيتهم المستقبلية في ظل نفس المستوى الصحي والتعليمي الحالي.، ويتكون المؤشر من 5 مؤشرات فرعية هي: (احتمالية بقاء الطفل على قيد الحياة حتى سن الخامسة، ونسبة الأطفال غير المصابين بالتقزم، ومعدلات بقاء البالغين على قيد الحياة) بالنسبة للصحة، (عدد سنوات التعليم المتوقعة، ودرجات الاختبارات الدولية) بالنسبة للتعليم، ويشمل المؤشر 174 اقتصادًا.

ويُظهر مؤشر رأس المال البشري 2020 أنه قبل بداية الوباء، كان من المتوقع في المتوسط أن إنتاجية الجيل القادم ستكون 56% ​​مما يمكن أن تكون عليه إذا حصل على خدمات تعليم وصحة جيدة وفقا للمعايير الدولية، ولكن هناك تباينًا كبيرًا في النسب بين الاقتصادات المختلفة، ففي الاقتصادات منخفضة الدخل يمكن أن يحقق الطفل المولود 37% من إنتاجيته التي يمكن أن تكون عليها لو كان حصل على قدر كامل من التعليم والصحة، وبالنسبة للاقتصادات ذات الدخل المرتفع فمن الممكن أن يحقق الطفل 70% من إنتاجيته.

حجم الفاقد في رأس المال البشري

أثرت الصدمة الناتجة عن الوباء بشكل كبير على دخل الأسر والذي ستكون له آثار ممتدة على الصحة والتعليم، فمن المتوقع أن تؤدي تلك الصدمة إلى خسارة مؤشر رأس المال البشري للأطفال بعمر الخمس السنوات فأقل بنسبة 0.44%، وستتأثر الاقتصادات ذات الدخل المنخفض والمتوسط بشكل أكبر وتقدر خسائرها بحوالي 0.73%، و0.64% على التوالي، ويرجع ذلك في الغالب إلى أن معدلات التقزم هي الأعلى في هذه الاقتصادات.

كما سيتأثر رأس المال البشري للجيل الحالي من الأطفال في سن الدراسة بشدة بالوباء من خلال إغلاق المدارس: فخلال ذروة الوباء، كان ما يقرب من 1.6 مليار طفل في جميع أنحاء العالم خارج المدرسة، وسوف يؤثر ذلك عليهم إما من خلال نسيان الأطفال ما تعلموه سابقًا أثناء فترة الإغلاق، أو بسبب فقدان البعض فرص التعلم لعدم توافر التكنولوجيا الرقمية التي تمكنهم من التعلم عن بعد أو بتسرب الكثيرين منهم من التعليم بسبب نقص الدخل، وبوضع خسائر التعليم في سياق مؤشر رأس المال البشري فسيشكل ذلك انخفاضًا في رأس المال البشري للأطفال في سن المدرسة بنسبة 4.5%.

تراكم رأس المال البشري على مدى دورة الحياة 

في الوقت الحالي، تعتبر الصحة القناة الرئيسة التي تؤثر على رأس المال البشري للجنين من خلال تعطيل الرعاية الصحية وانخفاض دخل الأسر،  فالصلة بين دخل الوالدين وصحة الطفل تكون قوية خلال فترة الطفولة، حيث يمكن أن يكون لنقص التغذية لدى الأمهات الحوامل تأثير كبير على الأطفال في الرحم، بما في ذلك التأثيرات طويلة الأمد على الحالات الصحية المزمنة والتحصيل المعرفي في مرحلة البلوغ، وتُظهر الأدلة أن هذا هو الحال بالنسبة للأطفال المولودين أثناء النزاعات والأزمات الاقتصادية والأوبئة، فعلى سبيل المثال، كان الأطفال الذين كانوا في الرحم أثناء جائحة الإنفلونزا عام 1918 أقل تحصيلًا تعليميًا ودخلًا خلال مرحلة البلوغ وكان التأثير أكثر وضوحًا بين أطفال الأمهات المصابات، كما كان وزن الأطفال الذين كانوا في الرحم خلال فترة الركود 2008-2009 أقل نسبيًا عند الولادة، لا سيما في العائلات منخفضة الدخل، ويمكن توقع نتائج مماثلة لجائحة COVID- 19، نظرًا لأن انخفاض الوزن عند الولادة يزيد من احتمالية الإصابة بسوء التغذية وتأخر النمو، فقد يؤثر انخفاض الدخل الناتج عن فيروس كورونا بشكل كبير على تحقيق رأس المال البشري للأجيال القادمة.

كذلك كان لفيروس كورونا تأثير واضح على زيادة وفيات الأطفال؛ ويرجع ذلك لسببين، الأول: تعطيل خدمات صحة الأم والطفل، بسبب فيروس كورونا، حيث تشير النتائج الأولية إلى زيادة معدل وفيات الأطفال بنسبة تصل إلى 45% بسبب نقص الخدمات الصحية وانخفاض فرص الحصول على الغذاء في 118 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل، الثاني: الانكماش الاقتصادي، حيث ارتبط بزيادات كبيرة في معدل وفيات الأطفال خاصة في البلدان منخفضة الدخل، فانخفاض الدخل بنسبة 10% ترجم إلى زيادة في وفيات الأطفال بمعدل 1.3 حالة وفاة لكل 1000 طفل بين البلدان منخفضة الدخل.

ومن المرجح أن يكون للجائحة تأثير على زيادة معدلات التقزم؛ فتغذية الأم أثناء الحمل والتغذية أثناء الطفولة من العوامل الشائعة المتعلقة بالتقزم، وكلاهما من المرجح أن يتفاقم مع انخفاض دخل الأسرة، كذلك يمكن أن يؤدي الانخفاض في إجمالي الناتج المحلي الإجمالي أيضًا إلى ضعف البنية التحتية الصحية ونقص التمويل للتدخلات والخدمات الخاصة بالتغذية، فتشير التقديرات الحالية إلى وجود علاقة عكسية بين الناتج والتقزم؛ فزيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% قد تؤدي إلى انخفاض في التقزم يتراوح من 2.7% إلى 7.3%.

فرضت جميع الاقتصادات تقريبًا نوعًا من إغلاق المدارس استجابةً للوباء، مما أدى إلى معاناة الطلاب في العديد من البيئات من صدمات التعلم، وتشير الدلائل إلى أن أي انقطاع في تعليم الأطفال يؤدي عادةً إلى تأثر نتائج التعلم بالسلب، وتشمل هذه الانقطاعات الاضطرابات التي تسببها الأوبئة والصراعات والكوارث الطبيعية وحتى الإجازات المدرسية المقررة، فدرجات تحصيل الطلاب الأمريكيين تتراجع بنحو شهر تقريبًا في المتوسط​​ خلال العطلة الصيفية العادية لمدة ثلاثة أشهر.

وتوضح التجارب التاريخية أثر إغلاق المدارس على نطاق واسع أثناء حالات الطوارئ على الصحة العامة، فبدراسة أثر جائحة شلل الأطفال عام 1916 على التحصيل العلمي في الولايات المتحدة، تبين أن الشباب الذين كانت تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا أثناء الجائحة أظهروا لاحقًا انخفاضًا في التحصيل التعليمي الإجمالي مقارنة بأقرانهم الأكبر سنًا بقليل، وتعد معدلات التسرب المتزايدة أحد العوامل التي تربط إغلاق المدارس في حالات الطوارئ بالخسائر المستقبلية في التحصيل التعليمي مدى الحياة؛ فمع تقدم الأطفال في العمر، تزداد تكلفة الفرصة البديلة للبقاء في المدرسة، مما قد يجعل من الصعب على الأسر تبرير إعادة الأطفال الأكبر سنًا إلى المدرسة بعد الانقطاع القسري، خاصة إذا كانت الأسر تعاني من ضغوط مالية. ولا تقتصر هذه الآثار على حالات الطوارئ الصحية العامة فقط، ففي تنزانيا، أدت صدمات الدخل للأسر الزراعية، حتى المؤقتة منها، إلى زيادة عمالة الأطفال وتقليل الالتحاق بالمدارس.

وقد أدت الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الوباء وإغلاق المدارس إلى زيادة نسب التسرب من التعليم، فقد ينتقل الطلاب إلى سوق العمل للتخفيف من الصدمة الاقتصادية لعائلاتهم، ففي أمريكا اللاتينية والكاريبي زادت أعداد المتسربين من التعليم بسبب الوباء بنسبة 15% بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عامًا خلال عام 2020.

وتشير أحدث التوقعات العالمية حول تأثير إغلاق المدارس المرتبطة بكورونا إلى أن الجيل الحالي من الطلاب معرض لخطر خسارة 17 تريليون دولار من أرباحهم مدى الحياة بالقيمة الحالية نتيجة لإغلاق المدارس، ما يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي اليوم

ووفقًا لمقياس رأس المال البشري لسنوات الدراسة المعدلة بالتعلم، فإن الإغلاق سيؤدي إلى خسارة ما يقرب من 0.6 سنة، وتعكس هذه الأرقام الخسارة في التعليم التي تأتي من التسرب المحتمل بسبب فقدان الدخل، بالإضافة إلى انخفاض الجودة بسبب سوء التعلم نتيجة أساليب التدريس عن بعد غير الفعالة.

هذا، وقد اعتمدت العديد من الدول التعلم عن بعد كوسيلة للتخفيف من خسائر التعلم خلال فترات إغلاق المدارس الطويلة، ولا تشمل استراتيجيات التدريس عن بعد التعلم عبر الإنترنت فحسب، بل تشمل أيضًا البرامج الإذاعية والتليفزيونية والتنبيهات النصية في البلدان التي يكون فيها الاتصال الرقمي محدودًا، وتقلل هذه الاستراتيجيات الآثار السلبية المحتمل حدوثها نتيجة الإغلاق ولكن لم تتحدد فعالية هذه التدابير بعد.

وعلى الرغم من الجهود المبذولة لإعداد تجربة تعليمية عن بُعد داعمة لفترة الطوارئ، فإن إغلاق المدارس أدى إلى خسائر في التعلم وزيادة في عدم المساواة، حيث لم يتمكن حوالي 463 مليون طفل من التعلم عن بعد، وكان ثلاثة من كل أربعة أطفال منهم من مناطق ريفية أو أسر فقيرة، وكانت هذه الخسائر أعلى بكثير بين الطلاب الذين يتمتع آباؤهم بمستوى تعليمي أقل، بينما الأطفال من العائلات ذات المستوى الاجتماعي والاقتصادي المرتفع قد تلقوا دعمًا أكبر من الوالدين في دراستهم خلال فترة إغلاق المدرسة، ولكن حتى البلدان ذات الدخل المرتفع في أوروبا على الرغم من قدرتها التكنولوجية الكبيرة، فقد عانت من خسائر التعلم وزيادة عدم المساواة؛ نتيجة للانتقال المفاجئ إلى التعلم عن بعد، بينما كانت الخسائر أكثر حدة في البلدان ذات الدخل المتوسط ​​والمنخفض، حيث توجد قدرة تكنولوجية أقل بكثير وتعيش نسبة كبيرة من الأسر تحت خط الفقر.  

ومع عودة الأطفال إلى المدرسة، قد تواجه الدول طلبًا متزايدًا على التعليم الحكومي، لأن خسائر دخل الأسرة دفعت العديد من الآباء إلى اللجوء إلى المدارس الحكومية بدلًا من المدارس الخاصة، ففي يونيو 2020، زاد التسجيل في المدارس الحكومية في المنطقة الساحلية من الإكوادور بنسبة 6.5%، مما أدى إلى انضمام حوالي 120 ألف طالب إضافي إلى المدارس الحكومية، وحدثت هذه الزيادة على الرغم من عرض الحكومة إعانة بنسبة 25% على الرسوم الدراسية الشهرية للمدارس الخاصة للآباء والأمهات الذين فقدوا وظائفهم، ومع توافر عدد محدود من المعلمين المؤهلين في المدارس الحكومية، كما يمكن أن يؤدي انتقال الطلاب من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية إلى انخفاض شديد في نتائج التعلم في العديد من الدول.

تعد المدارس مكانًا آمنًا حيث يحصل الطلاب ليس فقط على خدمات التعليم، ولكن أيضًا على الخدمات التكميلية مثل، التغذية والدعم النفسي، حيث أثر إغلاق المدارس على 85 مليون طفل في أمريكا اللاتينية والكاريبي كانوا يستفيدون من برامج الوجبات المدرسية منهم 10 ملايين طفل تناولوا الوجبات المدرسية كأحد مصادر الغذاء الأكثر موثوقية، وجدير بالذكر أن 48% من البلدان في أمريكا اللاتينية والكاريبي تدعم الطلاب بالوجبات الغذائية، وهي نسبة أعلى بكثير من المتوسط ​​العالمي البالغ 27%.

ويؤثر البقاء في المنزل على صحة الطلاب الجسدية والعقلية والعاطفية، فضلًا عن تعرضهم للانخراط في السلوكيات المحفوفة بالمخاطر، وأظهرت الأزمات السابقة أن الطلاب يمكن أن يعانون من مستويات متزايدة من القلق والاكتئاب بسبب الآثار الاجتماعية للإغلاق والمخاوف الصحية، وبالتالي يمكن أن يرتبط إغلاق المدارس أيضًا بزيادة المشاركة في زيادة معدلات الاضطراب والاكتئاب والأنشطة الإجرامية والعنف الجنسي، ووجدت دراسة حديثة بين المراهقين في الإكوادور (الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا) أن واحدًا من كل ستة مراهقين أبلغ عن معاناته من الاكتئاب خلال الوباء.

قد تُترجم خسائر التعلم إلى تحديات أكبر على المدى الطويل؛ فمن المعروف منذ فترة طويلة أن الانخفاض في درجات الاختبار يرتبط بانخفاض التوظيف في المستقبل وعلى العكس من ذلك، تؤدي الزيادات في تحصيل الطلاب إلى زيادات كبيرة في الدخل المستقبلي، كما هو الحال مع سنوات الدراسة الإضافية، والتي ترتبط بمكاسب تتراوح بين 8% و9% في الدخل مدى الحياة. وقد يكون لخسائر التعلم الناشئة عن جائحة COVID-19 تأثير سلبي طويل الأجل على رفاهية العديد من الأطفال في المستقبل، حيث يمكن أن تعوق فرص الوصول إلى التعليم العالي، ومن ثم انخفاض المشاركة في سوق العمل، وانخفاض الدخول المستقبلية، حيث فقد الأطفال في العديد من البلدان معظم أو كل التعلم الأكاديمي الذي كانوا سيحصلون عليه عادةً في المدرسة، ففي ساو باولو (البرازيل) تعلم الطلاب 28% فقط مما كان سيحصلون عليه في الفصول الدراسية، وزاد خطر التسرب أكثر من ثلاثة أضعاف في ريف كارناتاكا (الهند)، كما انخفضت نسبة طلاب الصف الثالث في المدارس الحكومية القادرين على إجراء عمليات حسابية بسيطة من 24% في عام 2018 إلى 16% فقط في عام 2020.

ووفقًا لتحليل وكالة ماكينزي، في الولايات المتحدة تهدد تداعيات الوباء بإحباط آفاق هذا الجيل وتقليص فرصه في المستقبل، فقد تؤدي الآثار المتتالية إلى تقويض فرصهم في الالتحاق بالجامعة وإيجاد وظيفة مرضية تمكنهم في النهاية من إعالة أسرهم، ويشير التحليل إلى أنه ما لم يتم اتخاذ خطوات لمعالجة التعلم غير المكتمل(أي أن الطلاب لم يُمنحوا الفرصة هذا العام لإكمال كل التعلم الذي كان من الممكن أن يكملوه في عام كامل)، فسينعكس ذلك على دخلهم المستقبلي، حيث سيكسب طلاب اليوم أقل من 49 ألف دولار إلى 61 ألف دولار على مدار حياتهم بسبب تأثير الوباء على تعليمهم.

هل يمكن أن يحل التعليم عن بعد محل التعليم المباشر وجهًا لوجه؟

تعمل تكنولوجيا التعليم على تحسين نتائج التعلم ومؤشرات التعليم الأخرى، حيث يمكن للبرامج التعليمية للتعليم الابتدائي وما قبل الابتدائي من خلال التلفاز أو الراديو، أن تعمل على اكتساب مهارات القراءة والكتابة، كذلك ثبُت أن البرامج التعليمية لمرحلة ما قبل المدرسة يمكن أن تؤدي إلى تحصيل أعلى في المدرسة، وأن مشاهدة برامج التعليم الترفيهي في الأعمار الصغيرة تؤدي إلى تحسين الدرجات في المدرسة الثانوية، ووجدت مقارنة بين 150 تدخلًا لتحسين نتائج التعليم أن التدخلات التي تستخدم التعليم التكيفي بمساعدة التكنولوجيا هي بين العشرة الأوائل في زيادة مكاسب التعلم.

ومع ذلك، فإن الأدلة الحديثة تشير إلى أن التعلم عن بعد لا يمكن اعتباره بديلًا طبيعيًا للتعلم وجهًا لوجه، حيث إن هناك العديد من المشكلات التي تتعلق بالاتصال بالإنترنت والذي يعد أساس التعلم عن بعد، بالإضافة إلى افتقار التعلم عن بعد إلى المشاركة والتفاعل، ووفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "Lemann Foundation" تبين أنه بينما يشارك 92% من الطلاب في أنشطة التعلم عن بعد في المنطقة الجنوبية من البرازيل، فإن 52% فقط من الطلاب يفعلون ذلك في أفقر منطقة شمال غرب البرازيل، وكذلك كشفت الدراسة نفسها أن الالتزام بالتعلم من المنزل يعد من أكبر التحديات التي تواجه التعلم عن بعد، خاصة بالنسبة للأطفال والشباب الذين لديهم دعم أسري أقل وصعوبة في الوصول للأجهزة الرقمية، مشيرة إلى أن افتقار الطلاب إلى الحافز للقيام بالأنشطة في المنزل قد ارتفع من 46% في مايو إلى 54% في سبتمبر.

ونظرًا لما أحدثه الوباء من خسائر في التعليم والصحة فلم تكن سوق العمل بمنأى عن هذه الخسائر، فقد أثر الوباء على سوق العمل بشكل كبير، فوفقًا لمنظمة العمل الدولية، انخفضت ساعات العمل خلال الربع الأول من عام 2020 بما يعادل 130 مليون وظيفة بدوام كامل، وبالتالي سيكون لعمليات الإغلاق وتسريح العمال أثر دائم على أرباحهم، فأولئك الذين يفقدون وظيفتهم نتيجة التسريح الجماعي من المحتمل أن يواجهوا خسائر كبيرة ومستمرة في الكسب، تعادل تقريبًا 1.7 سنة من أرباحهم قبل التسريح.

كذلك من المرجح أن يواجه العمال الذين لديهم فترات عمل أطول في الشركة، إذا تم فصلهم، تآكلًا كبيرًا في المهارات، لأن العديد من المهارات التي جمعوها قد تكون خاصة بنوعية العمل الذي يعمله، وإذا وجد هؤلاء العمال عملًا في المستقبل، وكانت وظيفتهم الجديدة تتطلب مهارات مختلفة، فمن المحتمل أن يواجهوا انخفاضًا في أجورهم.

كما تشير الدلائل أيضًا إلى أن أولئك الذين فقدوا وظائفهم أثناء الوباء قد يعانون من العديد من الأمراض بل يصل الأمر إلى حد الوفاة، فقد وجدت إحدى الدراسات أن العمال الأمريكيين الذين عملوا في شركة لمدة ست سنوات على الأقل ثم تم فصلهم أثناء الركود كان لديهم معدلات وفيات أعلى من العمال المماثلين الذين لم يتم تهجيرهم، وتشير التقديرات إلى انخفاض متوسط ​​العمر المتوقع للعمال المفصولين بين 1.0 و1.5 سنة، ويرجع ذلك على الأرجح إلى زيادة الضغط المزمن.

تعتبر فجوة المهارات هي فجوة بين المهارات التي يمتلكها الموظف والمهارات التي يحتاجها بالفعل لأداء وظيفة بشكل جيد، وتختلف حسب نوع الوظيفة وترجع مشكلة فجوة المهارات بالأساس إلى فجوة التعلم والتي تتمثل في نقص تعلم المهارات المعرفية والاجتماعية والعاطفية والتي تعتبر سببًا أساسيًا في حدوث فجوات المهارات التي يحددها أصحاب العمل.

اتسعت فجوة المهارات بشكل كبير خلال الوباء، حيث تسبب إغلاق المدارس بسبب COVID-19 في حدوث اضطرابات كبيرة في التعليم في جميع أنحاء العالم، حيث أدى إلى خسائر في التعلم وزيادة عدم المساواة؛ ففي ذروة الوباء، أغلقت 45 دولة في منطقة أوروبا وآسيا الوسطى مدارسها، مما أثر على 185 مليون طالب وتم اللجوء إلى بناء أنظمة التعلم عن بعد على الفور تقريبًا، ولكن كان أحد قيود التعلم عن بعد في حالات الطوارئ هو عدم وجود تفاعل شخصي بين المعلم والطالب.

التحول نحو الرقمنة واتساع فجوة المهارات الرقمية

أدى التحول السريع للرقمنة وزيادة أتمتة الوظائف إلى زيادة الفجوة في المهارات المطلوبة لهذه الوظائف، فوفقًا لتقرير مستقبل الوظائف لعام 2020 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فإنه بحلول عام 2025 سوف يتم استبدال 85 مليون وظيفة بالتحول في تقسيم العمل بين الآلات والبشر، فيما سيظهر 97 مليون دور جديد أكثر تكيُّفًا مع التقسيم الجديد في العمل بين البشر والآلات.

والحقيقة هي أن ما يقرب من نصف الوظائف تواجه أتمتة محتملة، وحوالي 65٪ من الأطفال في المدرسة اليوم سينتهي بهم الأمر بالعمل في وظائف جديدة تمامًا لم تكن موجودة بعد، قد لا تختفي الوظائف الحالية ولكنها ستكون مختلفة بالتأكيد فوظائف مثل، الخدمات المصرفية ستتحول إلى وظائف افتراضية بالكامل، وستظل المهن الأساسية مثل، الطب موجودة ولكن مع استخدام التكنولوجيا بشكل شامل.

علاوة على ذلك، فإن 84٪ من أصحاب العمل مصممون على رقمنة عملياتهم بسرعة؛ فيما يرى 94٪ من قادة الأعمال أنهم يتوقعون أن يكتسب الموظفون مهارات جديدة في الوظيفة، وفي إطار تحسين المهارات تستثمر الشركات في جميع أنحاء العالم مليارات الدولارات لإعادة تشكيل قوتها العاملة لتواكب التطور التكنولوجي الجديد.

على المستوى العالمي، تبين وجود تفاوت بين القيمة السوقية لمهارات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقلة الإقبال نسبيًا على الحصول على درجات علمية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فوفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لبيانات عام 2019 تبين أن تخصصات الهندسة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات هما الأكثر دخلًا، لكن نسبة الطلاب الذين يلتحقون بتخصص الهندسة تمثل حوالي (16٪) وهو أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الطلاب الملتحقين بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذين يشكلون (5٪)، وعلى الرغم من أن الراتب المحتمل لشخص يحمل درجة علمية في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مرتفع، فإن معدل الإقبال على هذا المجال يعد هو الأدنى على الإطلاق مما يشكل فجوة كبيرة في سوق العمل، حيث يعتبر هذا التخصص هو الأكثر احتياجًا حاليًا.

التفاوتات الرقمية تعكس التفاوتات الاجتماعية الموجودة بالفعل

يمكن اعتبار الفجوة الرقمية بمثابة تمييز بين أولئك القادرين على الوصول إلى التقنيات الجديدة والمستفيدين من الرقمنة السريعة مقابل أولئك الذين يواجهون عوائق في الوصول إلى التكنولوجيا واستخدامها - مما قد يؤدي إلى تفاقم مشكلة عدم المساواة، تركز مفهوم الفجوة الرقمية مسبقًا على عدم المساواة في الوصول إلى الإنترنت، لكن مؤخرًا أصبحت المشكلة لها بعد آخر يتمثل في تحديد المهارات اللازمة لاستغلال الإمكانات الهائلة للإنترنت، مما يجعل الوصول إلى البنية التحتية الرقمية فجوة رقمية من المستوى الأول والمهارات الرقمية فجوة رقمية من المستوى الثاني؛ فبدون الوصول إلى الإنترنت، هناك فرص محدودة لتطوير المهارات الرقمية، وفي الوقت نفسه من الصعب استغلال السعة الكاملة للتقنيات الرقمية بدون مهارات رقمية.

ومما يزيد من اتساع الفجوة تعرض العمال لضغوط متزايدة لرفع المهارات الرقمية أو المخاطرة بمزيد من الانخفاض في الأجور، حيث أصبحت المهارات الرقمية ضرورية للمناصب التي تتطلب مهارات عالية، بينما تتطلب الوظائف ذات المهارات المتوسطة بعض المهارات الرقمية البسيطة لأداء المهام، فيما قد لا يحتاج العمال ذوو المهارات المنخفضة إلى المهارات الرقمية، وعلى الرغم من انخفاض حصة العمال ذوي المهارات المتوسطة إلا أنهم يمتلكون بعض المهارات التي يمكن تكييفها وصقلها حتى يتمكنوا من الانتقال إلى وظائف تتطلب مهارات عالية.

وكذلك قد يتعرض العاملون لخطر فقدان الوظائف جزئيًا بسبب نقص الجهود لإعادة تخصيص مهاراتهم ومهامهم لتتماشى مع الاتجاهات التكنولوجية، حيث تبحث الشركات عن المهارات المتعلقة بالتقنيات الجديدة مثل blockchain والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، فضلًا عن المهارات المتعلقة بالبيانات الضخمة والأمن السيبراني.

وقد ظهرت وظائف جديدة استجابة لهذه المتطلبات التكنولوجية المتغيرة مثل، محللو البيانات، ومتخصصو الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، ومهندسو الروبوتات، ومطورو البرامج والتطبيقات، ومتخصصو التحول الرقمي، ومتخصصو أتمتة العمليات، ومحللو أمن المعلومات، ومتخصصو إنترنت الأشياء.

يمكن للاستثمار في المهارات الرقمية تعويض الاستبدال الوظيفي الناجم عن التغيير التكنولوجي، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال من المتوقع أن يتم استبدال 1.37 مليون عامل من أدوارهم خلال السنوات العشر القادمة، ولكن باستثمار 4.7 مليارات دولار، يمكن للقطاع الخاص في الولايات المتحدة إعادة تشكيل ما يصل إلى 25٪ من العمال، وإذا استثمرت الحكومة في ذلك الوقت 19.9 مليار دولار، فيمكن إعادة تأهيل 77٪ من العمال المتوقع استبدالهم.

مستقبل سوق العمل ما بعد كورونا

زاد العمل عن بعد بشكل كبير جدًا خلال الوباء، فوفقًا لدراسة استقصائية عالمية تبين أنه في المتوسط حوالي ​​52٪ من البالغين العاملين قد عملوا من المنزل في مرحلة ما منذ بداية الوباء.

ووفقًا لوكالة ماكينزي في تحليل لتسع دول هي (الصين وفرنسا وألمانيا والهند واليابان والمكسيك وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) يشمل 2000 نشاط في 800 مهنة، وقد تبين أن إمكانية العمل عن بعد تتركز في عدد قليل من القطاعات، وهي، التمويل والتأمين الذي لديه أعلى إمكانية للعمل عن بعد، حيث يتم قضاء ثلاثة أرباع الوقت في الأنشطة التي يمكن القيام بها عن بُعد دون فقدان في الإنتاجية. يليها قطاع الإدارة وخدمات الأعمال وتكنولوجيا المعلومات مع قضاء أكثر من نصف وقت الموظف في الأنشطة التي يمكن القيام بها عن بُعد، وتتميز هذه القطاعات بنسبة عالية من العاملين الحاصلين على شهادات جامعية أو أعلى.

كما تختلف إمكانية العمل عن بعد باختلاف البلدان حسب مزيج القطاعات والنشاط بها؛ ففي المملكة المتحدة تمثل الخدمات التجارية والمالية حصة كبيرة من اقتصادها ومن ثم لديها أعلى إمكانات للعمل عن بُعد بين البلدان التي شملها التحليل، حيث يمكن للقوى العاملة لديها من الناحية النظرية أن تعمل عن بعد ثلث الوقت دون خسارة في الإنتاجية، أو ما يقرب من نصف الوقت ولكن مع انخفاض الإنتاجية، ومن ثم يمكن للقوى العاملة في الاقتصادات المتقدمة الأخرى تخصيص 28% إلى 30% من الوقت للعمل عن بعد دون فقدان الإنتاجية.

أما في الاقتصادات الناشئة، تميل العمالة نحو المهن التي تتطلب أنشطة مادية ويدوية في قطاعات مثل، الزراعة والتصنيع، ومن ثم تنخفض احتمالية الوقت الذي يتم قضاؤه في العمل عن بُعد لتتراوح بين 12% إلى 26% في الاقتصادات الناشئة التي شملها التقييم؛ ففي الهند يمكن للقوى العاملة أن تقضي 12% فقط من وقتها في العمل عن بُعد دون حدوث فقدان في إنتاجيتها، فعلى الرغم من أن الهند معروفة عالميًا بصناعاتها عالية التقنية والخدمات المالية، فإن الغالبية العظمى من قوتها العاملة البالغة 464 مليونًا تعمل في وظائف مثل، خدمات البيع بالتجزئة، والزراعة التي لا يمكن القيام بها عن بُعد.

سيظل تبني التكنولوجيا في تسارع في العديد من المجالات، ففي السنوات السابقة ظل اعتماد الحوسبة السحابية والبيانات الضخمة والتجارة الإلكترونية من الأولويات القصوى لأصحاب الأعمال، وكذلك كان هناك اهتمام كبير بالتشفير والروبوتات غير البشرية والذكاء الاصطناعي.

وبظهور العديد من التقنيات الحديثة مؤخرًا والتي تمثل بداية الثورة الصناعية الرابعة، شرعت العديد من الشركات في جميع أنحاء القطاع الخاص في إعادة توجيه اتجاهها الاستراتيجي لاغتنام الفرص التي أوجدتها هذه التقنيات، وبحلول عام 2025، سيتم استخدام قدرات الآلات والخوارزميات على نطاق أوسع مما كانت عليه في السنوات السابقة، مما سينعكس على شغل الوظائف وستتطابق ساعات العمل التي تؤديها الآلات مع الوقت الذي يقضيه البشر في العمل، وبالتالي سيؤدي إلى نقص فرص العمل للعمال على نطاق واسع في العديد من الصناعات والمناطق الجغرافية، حيث تشير البيانات وفقًا لاستطلاع رأي حول مستقبل الوظائف إلى أنه بحلول عام 2025 في المتوسط  سيتم استبدال 6٪ من العمال بالآلات بشكل كامل.

وعلى الرغم مما ستشكله الأتمتة من خطر على بعض الوظائف على المدى المتوسط ،فإن اختفاء بعض الوظائف سيقابله ظهور وظائف جديدة تتماشى مع الاتجاهات الجديدة؛ فهناك طلب متزايد على العمال الذين يمكنهم شغل وظائف الاقتصاد الأخضر، وظهور أدوار جديدة خاصة بالبيانات والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى أدوار جديدة في الهندسة والحوسبة السحابية، وفي مسح لأصحاب العمل حول مستقبل الوظائف تبين أن لديهم الحافز لدعم العمال الذين تم تهجيرهم من أدوارهم الحالية، حيث يخططون لنقل حوالي 46٪ من هؤلاء العمال من وظائفهم الحالية إلى الفرص الجديدة بالإضافة إلى ذلك، تتطلع الشركات إلى توفير فرص لتدريب حوالى 73% من موظفيها على المهارات الجديدة مدركين حقيقة أنه بحلول عام 2025، ستتغير 44٪ من المهارات التي سيحتاجها الموظفون لأداء أدوارهم بفاعلية.

ويمكن ملاحظة هذه التغييرات في تتبع البيانات لاتجاهات التوظيف في الولايات المتحدة بين 2007-2018، حيث تشير إلى أنه تم الاستغناء عن 2.6 مليون وظيفة خلال تلك الفترة ومنها، مشغلو الكمبيوتر، والمساعدون الإداريون، وكتابة الملفات، وإدخال البيانات.

 وختامًا، تعتبر جائحة كورونا هي صدمة عابرة، فإغلاق المدارس سوف يؤثر  فقط على الأطفال في سن المدرسة حاليًا، فمن غير المرجح أن تؤثر على الأطفال الذين يولدون اليوم، وذلك بافتراض أنه تمت السيطرة على الوباء وأعيد فتح  المدارس بحلول الوقت الذي يكون فيه هؤلاء الأطفال مستعدين لبدء المدرسة، لكن اضطراب النظم الصحية والصدمات التي أصابت دخل الأسر ستؤثر على احتمالية بقاء الأطفال الصغار على قيد الحياة وعلى نموهم الصحي الآن، ومن ثم ستنعكس هذه الحالة الصحية على تعلمهم وتعليمهم، لذا، لابد من بذل المزيد من الجهود من قبل الدول من أجل تقليل آثار الجائحة على الصحة والتعليم، وكذلك العمل على سد فجوة المهارات الرقمية التى تفاقمت بشكل كبير خلال الوباء.

google-playkhamsatmostaqltradent