د. عزوز على إسماعيل
رواية «يا شمس أيوب» للكاتبة والأديبة شاهيناز الفقى رواية ماتعة فهى شائقة
وشائكة؛ شائقة لأنها ثرية وممتعة وتعزف على الوتر الإنسانى والوجدانى وشائكة
لأنها تطرح قضايا عديدة منها قضايا فلسفية وإنسانية ووجودية وحياتية من الواقع
المعيش. سرد سلس جميل يأخذك إلى عالم بعيد، منذ الوهلة الأولى، حيث تعرض
الكاتبة من خلال الراوى العليم لتلك الشريحة من المجتمع وهى طبقة العمال
الكادحين أياً كان العمل وتحاول أن تؤكد الآلام التى تعانيها تلك الطبقة من أجل
الوصول ولكنهم فى نهاية المطاف ما زالوا كما هم مع تسلط رأس المال، توهمنا
الكاتبة أنها تتناول الحياة فى سبعينيات القرن الماضى بكون ذلك محفوراً فى
الذاكرة وهى تؤكد بضميرها الإنسانى الحى أنها تتناول الوقت الحاضر وما يناله
الشعب. تلك التروس الدائرة فى السينما لو تعطلت لاستبدلوا بها آخر أو شخص
كومبارس آخر، لا يهمهم الإنسان بقدر ما يهمهم المال، نعم الكاتبة توهمنا وتحاول
التأكيد أنها تكتب عن الماضى ولكنها بالفعل تكتب عن الحاضر، تكتب عن
اللصوص والمجرمين، تكتب عن تلك الطبقة وانهزامهم أمام واقع مرير، واقع فيه
الإنسان منكسرًا لا يقوى على شيء إلا ملذاته وانغماسه فى الوحل، وإذا أراد أحد
المشايخ انتشال أحدهم من تلك الرذيلة، يرفضها لأنه وجد نفسه منهاراً من الأساس
فالبنيان هش من أساسه، ولن يصمد كثيراً ويظل فى تيه وعربدة، حتى الأسماء
كانت مزيفة وتغيب مع ذلك التيه بين الواقع الحقيقى للاسم والمزيف، بل وتصر على
ذلك بأن العمالقة من الفنانين لا يعرفون بأسمائهم الحقيقية، وتبدو الكاتبة متعاطفة
مع تلك الشريحة من المجتمع والتعاطف هنا كان من خلال تعرية سوءات
شخصياتها، التى تصر على البقاء على حالها، إنه الانكسار النفسى والوجودى
للإنسان؛ ممثلاً فى انتظار الغائب لربما فيه الأمل كما الحال عند زينب ومعشوقها
الذى طار، شمس «أيوب» الذى ظل منغمساً فى انهزامه رغم فرحه به، إيمان
المسكينة وغضبها. آلام عديدة وهزائم متوالية. توهمنا الكاتبة أنها إزاء نظرة إلى
الماضى حتى من خلال الإهداء، وذلك الحزن الدفين على من رحلوا، بل تحزن على
الماضى من خلال ما رأته فى الحاضر؛ لأن الماضى لا يمكن بأى حال من الأحوال
أن يعود، والحاضر به جزء مقصود من تعمد كسر الإنسان فى الوقت الراهن. تقول
فى إهدائها كعتبة نصية لها امتدادها فى العمل: «إلى الذين رحلوا تاريكين خلفهم
قافلة حزن أتعبها المسير، فأناخت جراحها بقلبي». وما يؤكد ذلك تلك الرسالة التى
أرسلتها فى بداية العمل من خلال التصدير، والتصدير رسالة لأشخاص بأعينهم
تنم عن ألم حقيقى عاشته الكاتبة وفرغته عبر الصفحات. فالتصدير pigraphe .
inscriptionÉ الذى يأتى به الكاتبُ دليلٌ على العملِ نَفْسِهِ، باعتبار أنَّه توجيه
للمتلقي، من خلال ارتباطِه بالعمل إشارياً ودلالياً؛ ذلك أنَّ التَّصديْرُ موجهٌ إلى
القارئ أولاً؛ حتى يستطيع من خلاله فكِّ طلاسم النَّصِّ بحكم أنَّه مرتبطٌ بهذا النَّصِّ
؛ فالتَّصدير أو المُقْتَبَسَةُ «جملةٌ توجيهيةٌ يوظفها الكاتبُ فى الصَّفحاتِ الأولى لمؤلَّفه
التى تسبق عادة متنه لتوضيح القصد العام منه، وقد عرَّفها قاموس الطَّرائق الأدبية
بأنَّها: «شاهد يوضَع فى مستهل عملٍ أو فصلٍ للإشارة إلى روح هذا العمل أو
الفصل»، واعتبرها جيرار جنيت بمثابة حركة صامتة Gestmnet لا يمكن إدراك
مغزاها وقصدها إلا من خلال تأويل القارئ»
تتبع الكاتبة تقنية الفلاش باك وهى تسرد فصولها.. بداية من الخلف وصول الفتى
أيوب وهو يعمل كومبارس وعليه أن يُضرب فقط ولا ينطق بكلمة «آه» إسقاط رائع
على الواقع المر الذى نحياه وتحياه مثل تلك الفئة، إنها تلك القصة العجيبة مع أيوب
الذى أعطته أم عبير عمة الجميع فى حى الوايلى اسماً آخر هو شمس الفتى
الأسمر الجميل، مع تلك البنت الصغيرة «زينب». أسماء غير الأسماء لتلتقى
الكاتبة بما دونته فى البدء من علاقة حيواتنا بالزيف الذى نحياه، وتغيير الأسماء
والفوارق الطبقية، بين من يعمل كومبارس، وتلك الفئة المنتهكة والأبطال والمنتجين
الكبار.
تبدو حفريات النص عالقة فى فكر وعقل الكاتبة، خاصة ما صنعه الاستعمار
الثقافى لبلادنا وهى جزئية غاية فى الخطورة من خلال تشويه شخصية رجل الدين
ومعلم اللغة العربية؛ لأنهما أساس الثقافة العربية ولو هدمنا هاتين الشخصيتين من
ثم فقد هدمنا الإنسان العربي، ولا ألوم الكاتبة لأن هذا الأمر أصبح واقعاً محفوراً
فى الذاكرة ولم تستطع الكاتبة الخلاص منه فأيمن وصفى مدرس اللغة العربية هو
من عشقته زينب نعم إشكالية وجود معلم اللغة العربية فى الرواية والسينما على
مدار القرن الماضى وبداية الحالي، فنجد معلم اللغة العربية هو العاشق الباحث
عن الشهوة والغريزة كما فى من عشقته، وكأن مدرس اللغة الإنجليزية لا يعشق ولا
يحب أو عنينا. وإذا كان فى العربية قصائد العشق والهوى والشعر العربى العظيم
ففى الإنجليزية كذلك وأيضاً الفرنسية. المشكلة أن الكاتبة تأثرت بعبدالمنعم إبراهيم
المتشدق باللغة العربية وأنور وجدى وكان وأخواتها وأولاد عمها وعماتها، نعم
السينما المصرية فى القرن الماضى شوهت معالم اللغة العربية من خلال تشويه
معلم اللغة العربية وعمامة الأزهر لا لشيء إلا لأن هذا المعلم خاصة هو من يمتلك
الوسامة التى تجذب البنات ويصنع معهن علاقات محرمة وتخرج علينا فئات عديدة
نرى منهم النطيحة والمتردية ومن أكل السبع من الدهماء من كل حدب وصوب
ليسبوا ويلعنوا اللغة ومن يتعلمها فى النهاية يصب الأمر فى صالح أعداء اللغة
العربية.
تناقض الشخصيات يظهر جليا فى يونس المحب جدا لشمس وفى الوقت نفسه أراد
أم عبير لنفسه، وأم عبير نفسها رغم وقوع الكثيرين فى عشقها إلا أنها لم تعشق
إلا شمسا حتى وإن كان قد جف عودها، فنرى الريجيسير فتحى النون يدور حولها
لينال منها ما أرد وحين صدته منع عنها أى ترشيحات لأدوار أخرى حتى ولو كانت
أدوار صامته، وهذا أمر بات واضحًا كلما قدمت الجميلة تنازلات نالت الأماكن
العليا وهذا أمر لا يخفى عن أحد ويريد الجميع أن يتحدث عن العفة والشرف وهم
من الشرف والعفة براء. ورغم ذلك ظلت أم عبير «وش الخير» لنجمات كثيرات
صعدن للمجد والشهرة، ونلاحظ أحاديث عديدة تؤكد أن من يصل إلى الشهرة لا بد
أن يقدم تنازلات وليست الموهبة هى الأساس حتى ولو كان الأمر فى الشذوذ
الجنسى كما حدث مع يونس وحديثه مع رشدى ويحاول تعليل الرغبة فى قوله:
«هسألك سؤال، هو الحرام يتجزأ؟ يعنى نومك مع الولية الحيزبون يفرق إيه عن
مجدى البيسي، كله حرام فى حرام وفى النهاية ده أكل عيش». والكاتبة هنا تحاول
كذلك الأمر التأكيد على تلك العلاقات المشبوهة جنسياً بين المخرج ومن بيده الأمر
فى هذا المجال وبين الشخصيات لدرجة أن هناك من هذه الشخصيات من عاش
هذا الأمر بالفعل بل وأخذ اسم ذلك المخرج الكبير نظرًا لتلك العلاقة الشاذة بينهما.
حاولت الكاتبة إبراز جانب مهم من جوانب المجتمع للتأكيد على أن مثل هذه
الشخصيات موجودة وبقوة ولها تأثير واضح على الباقين وتؤكد أن هناك من يدفن
رأسه فى الرمال ولا يريد تعرية المجتمع ولكنها أبت ذلك وبكل جرأة طرحت من خلال
شخصياتها قضايا مهمة جديدة، منها قضايا فلسفية قد حاول البعض عدم
الاقتراب منها، تلح فى الوقت ذاته على أنه لا فائدة من التغيير عند شخصياتها
المنهزمة وهم يدورون فى دائرة سيزيف اليونانى بلا جدوى لأنهم مسلمون للأقدار
دون تحريك ساكن طالما ملذاته وشهواتهم هى الأساس. فكان شمس أيوب مركزا
رئيسا لذلك العشق فقد عشقته زيزى وأم عبير. ولم يجد ذلك العاشق حياة نظيفة
بها الطهر والنقاء إلا فى عالم آخر عالم الأحلام، وكأن الكاتبة تؤكد كذلك أن هناك
فارقاً بين ما نحلم به من عيشة عفيفة طاهرة وبين واقع حقيقى ممتلئ بالخطيئة
وفى الوقت نفسه نرى الكاتبة تبحث عن مخرج لتلك الحياة القابعة فى الوحل
وترسل إشارات نور لمن أراد العودة إلى الطريق السليم تذكرنا بحامد فى رواية
«زينب» للدكتور هيكل ورغبته التخلص من الخطيئة فيأتى الشيخ مسعود ويقول له
عليك بالاستغفار، وكذلك أعتقد أن الكاتبة قرأت رواية «جولى أو هلويز الجديدة»
لجان جاك روسى الذى كان متأثراً فيها بالتراث المسيحى القديم وجزئية الخطيئة
التى وقعت فيها «هلويز» آنذاك، ورغم أن الكاتبة تدور فى فلك شخصيات منهزمة
أخلاقياً ومجتمعياً إلا أنه يبدو من بين السطور رغبتها الحقيقية فى انتشال تلك
الشخصيات من ذلك المستنقع كما فعل أبيلار مع «هلويز» أى أنها تطبق ما قاله
أرسطو حول ما يعرف بجزئية «التطهير».
وللحديث بقية..