recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

الرقمنة ودورها في تعزيز مرونة الشركات في مواجهة الصدمات

 الرقمنة ودورها في تعزيز مرونة الشركات في مواجهة الصدمات

تُعرف مرونة الاستجابة للصدمات بقدرة النظام (بلد أو نظام بيئي صناعي أو حتى شركة واحدة) على تحمل الصدمات الخارجية وامتصاصها والتكيُّف معها، والتعافي من آثارها في الوقت المناسب وبطريقة فعالة. وتأسيسًا على ذلك، فإنه يوجد بُعدان للمرونة: البُعد الأول هو قوة النظام، والبُعد الثاني هو استعداد النظام للتكيُّف عند مواجهة الصدمة، وترجع التفرقة بين البُعدين إلى أن بعض الأنظمة قد تكون قوية نسبيًّا عند حدوث الصدمات، ولكن قد تواجه صعوبة كبرى في التعافي من آثارها؛ ذلك لأن التعافي يفترض القدرة على التعلم والتكيف والقدرة على التحول. فقد يكون النظام قادرًا على التكيف والتحول، ولكنه قد يفتقر إلى المزيد من القدرات التأسيسية؛ مما يجعله عرضة لتأثيرات الصدمة الأولية.

 وقد أثبتت الأزمات السابقة دور الرقمنة في تعزيز مرونة الشركات في مواجهة الصدمات، وبناء على ذلك يطرح المقال بعض الأسئلة المهمة عن رقمنة ومرونة الشركات مُتمثلة في: هل تعزز رقمنة الشركات مرونتها في مواجهة الصدمات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن للسياسة المالية أن تلعب دورًا في تعزيز الرقمنة على مستوى الشركة؟ وهل يتباين حجم تأثير الصدمات في الشركات الرقمية وغير الرقمية على مبيعات وأرباح الشركات والتوظيف؟

كيف تحسن الرقمنة أداء الشركات؟

قام البنك المركزي الأوروبي European Central Bank في عام ٢٠١٨ بإجراء استبيان حول كيفية تأثير التحول الرقمي على مبيعات الشركات وأسعارها وإنتاجيتها وتوظيفها، وقد شمل الاستبيان 74 شركة رائدة، موزعة بالتساوي بين منتجي السلع ومقدمي الخدمات؛ حيث مثَّلت تلك الشركات نحو 3.7% من الإنتاج و1.7% من العمالة في منطقة اليورو. وبشكل عام كان رأي الغالبية العظمى من المشاركين في الاستبيان أن للرقمنة تأثيرًا إيجابيًّا على مبيعات شركاتهم؛ حيث توقع أكثر من ٥٠٪؜ من المشاركين أن يؤدي اعتماد التقنيات الرقمية إلى "زيادة طفيفة" في المبيعات خلال السنوات الثلاث المقبلة، بينما توقع نحو الثلث حدوث "زيادة كبيرة" في المبيعات. وقد تعكس هذه النظرة الإيجابية الحجم النسبي وقوة الشركات التي شملها الاستبيان؛ حيث أوضحت نتائج الاستبيان أن ارتفاع معدل الاستحواذ على التقنيات الرقمية يساعد الشركات في اكتساب حصة كبرى في السوق.

فمن ناحية أخرى، يُعَد الوصول للعملاء هو القناة الرئيسة التي تدعم من خلالها الرقمنة نمو المبيعات. لذلك أكد المشاركون الدور الذي تلعبه التقنيات الرقمية في توفير الوصول إلى بيانات العملاء. فضلًا عن ذلك تلعب الرقمنة دورًا مهمًّا في دراسة وفهم احتياجات العملاء ومن ثَمَّ تساعد الشركات على تقديم خدمات جديدة أو محسّنة وحلول مصممة بمستويات جودة عليا. وهذا بدوره يدعم التحسينات في جودة المنتجات. ومن ناحية أخرى، رأى المستجيبون أيضًا أن الرقمنة تزيد من مرونتهم عندما يتعلق الأمر بتحديد الأسعار؛ حيث أفاد ما يقرب من نصف المستجيبين أن اعتماد التقنيات الرقمية قد زاد من قدرة شركاتهم على تعديل الأسعار مقارنة بأسعار منافسيهم.

الرقمنة ومرونة الشركات في مواجهة الصدمات:

قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس (Eraclitus) إن "التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة". وعلى الرغم من حقيقة هذا القول الواضحة والمنطبقة على الأعمال التجارية، فإن الطريقة التي تخطط بها معظم المؤسسات لا تتماشى معه أحيانًا؛ إذ كشفت إحصائيات وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية في الولايات المتحدة (Federal Emergency Management Agency) أن 40% من الشركات الصغيرة والمتوسطة لم تتمكن من إعادة الفتح والعمل مرة أخرى بعد التعرض لحالات الطوارئ، وأن 25% من الشركات التي استطاعت العمل بعد حدوث حالة الطوارئ فيها عادة ما تتعرض للفشل خلال عام واحد، وبالإضافة إلى ذلك، قدَّر موقع Ready.gov)) بالولايات المتحدة أن 63% من الشركات ليس لديها استعدادات للتعافي بعد حالات الطوارئ. ويرجع ذلك إلى أن الأزمات مثل الكوارث الطبيعية والأحداث الكارثية الأخرى غير المتوقعة، ولكن هذا لا يعني أن آثارها لا يمكن توقعها وتقييمها والتخفيف من حدتها. فقد أصبح لدينا الآن القدرات التكنولوجية التي تساعد في تعزيز استمرارية الأعمال ومواجهة الأحداث غير المتوقعة بشكل فعال أو التخفيف من عواقبها.

حيث تقوم المنصات الرقمية المتطورة بإجراء تحليلات متقدمة والاتصال عن بُعد، وتوفير الرؤية للشركات للكشف عن نقاط الضعف المحتملة، حتى تتمكن من مواجهة الصدمات والتقليل من التهديدات المفاجئة السريعة وتعزيز استمرارية الأعمال. كما تمنح التكنولوجيا الرقمية القادة بيانات مهمة لمساعدتهم على الاستعداد مسبقًا للأزمات من خلال توقع حالات الطوارئ والعمل على صياغة سيناريوهات التخفيف من حدة الأزمة مقدمًا، وهذا ما يُمكِّن بدوره الشركات من تحديد أولويات الاستجابة وطرق تنفيذ أساليب استجابة أكثر فاعلية للأزمات، وبالتالي تقليل المخاطر على عملياتها الإنتاجية وموظفيها وعملائها.

تأثير صدمة كوفيد-19 على الشركات الرقمية وغير الرقمية:

أصبح التحول الرقمي استراتيجية رئيسة للمؤسسات لتعزيز المرونة فيها والتكيف والتعافي من آثار الصدمات الخارجية وتحقيق التنمية المستدامة، فقد ساعدت تكنولوجيا التصنيع الرقمي الشركات على تجاوز أزمة كوفيد-19، عن طريق رفع قدرات الشركات على التعلم والابتكار في بيئة سريعة التغير. وهو الأمر الذي أكدته الدراسة الصادرة عن صندوق الدولي 2023 بعنوان (Firm-level Digitalization and Resilience to Shocks) والتي تناولت مسحًا لنحو 1.8 مليون شركة غير مالية في 53 دولة، والدراسة الصادرة عن منظمة اليونيدو (United Nations Industrial Development Organization) بعنوان (Industrial Development Report, 2022)، وقد أشارت نتائج كل من الدراستين إلى أن الشركات المتقدمة رقميًّا أقل تأثرًا من الشركات ذات القدرات الرقمية الضعيفة خلال جائحة كوفيد-19؛ حيث انخفضت المبيعات والأرباح فيها بنسبة ضئيلة، في حين أن الشركات ذات القدرات الرقمية الضعيفة قد عانت بشكل أكبر بعد الجائحة، وهو ما جعلها تحتاج إلى وقت أكبر للتعافي بعد الجائحة.

دور السياسات المالية في تعزيز رقمنة الشركات:

تناولت بعض الأوراق البحثية دور السياسات المالية في تعزيز التحول الرقمي، كذلك أكدت الدراسة التي أجراها صندوق النقد الدولي 2023 باستخدام مسح لبيانات 64 دولة، أن تدابير السياسة المالية يمكن أن تلعب دورًا مهمًّا في تسهيل التحول الرقمي للشركات، وذلك من خلال تحفيز الابتكار وتعزيز البحث والتطوير وريادة الأعمال ونقل التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال: سيؤدي الاستثمار العام في البنية التحتية الرقمية إلى تحسين إمكانية الوصول الرقمي والمساعدة في التغلب على قيود جانب العرض للتحول الرقمي. فضلًا عن ذلك يمكن أن يتم تقديم حوافز ضريبية للشركات لتعزيز التحول الرقمي للشركات، كذلك يمكن للدعم المالي للتدريب ودعم السيولة للشركات أن يحفزها على استخدام التقنيات الرقمية.

السياسات اللازمة لتسهيل التحول الرقمي في الشركة:

نظرًا للدور المهم الذي تلعبه رقمنة الشركات، هناك مجموعة من السياسات التي يجب اتباعها من قبل الحكومات والشركات لتعزيز التحول الرقمي في المؤسسات. وتتمثل أهم السياسات في الآتي:

أولًا- دور الحكومة:

تقديم دعم الاستثمارات العامة في اقتصاد المعرفة، وتعزيز الصناعات الرقمية وخدمات الحكومة الرقمية وأمن المعلومات؛ حيث يعد التقدم في هذه المجالات أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز ديناميكية الأعمال والثقة في التقنيات الرقمية.

تعزيز الوصول للتكنولوجيا بتحسين البنية التحتية الرقمية لتسريع وتيرة التحول الرقمي.

تقديم حوافز مالية وضريبية لتشجيع الاستثمارات الرقمية في المناطق المحرومة، والذي من شأنه أن يوسع الوصول إلى شبكات الاتصالات ويدعم التحول الرقمي.

توفير تدريب للمؤسسات للتحول الرقمي، وتوجيها للتحول الرقمي، وتحسين الرؤية الرقمية ومهارات إدارة المؤسسة وموظفيها.

تسريع وتيرة التحول الرقمي في الشركات الصغيرة والمتوسطة عن طريق دعم وتقليل الحواجز التقنية والمالية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

تعزيز البحث والتطوير والتدريب، والتدابير التشريعية لحماية أمن البيانات، وحماية الخصوصية، لتعزيز الرقمنة على مستوى الشركات.

إزالة الحواجز أمام الاستثمار الرقمي عبر الحدود، وتسهيل التجارة الإلكترونية.

ثانيًا- دور المؤسسات (الشركات):

بناء خطة تحول رقمي تلبي أهداف وخصائص الشركات وفقًا لظروفها الفعلية.

استخدام الحوسبة السحابية، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وتقنية سلسلة الكتل (blockchain)، وإنترنت الأشياء، وغيرها من التقنيات الرقمية الناشئة لتعزيز وتحسين الإنتاج والتشغيل والإدارة.

تعميق المشاركة في سلاسل القيمة العالمية، وهياكل المعلومات، لتعزيز التحول الرقمي إلى مستوى أعمق، وبالتالي تعزيز قدرة المؤسسات على مقاومة المخاطر بشكل فعال، وتحسين التطبيق الواسع النطاق للتكنولوجيا الرقمية.

التحول الرقمي في مصر:


منذ اندلاع جائحة فيروس كوفيد-19 وتداعياته المختلفة على المجتمع بأسره، تغير سلوك وموقف العديد من الأفراد والشركات تجاه تبني التقنيات الرقمية ونشرها والتكيف معها. فقد تبين أن التحول الرقمي يوفر فرصًا كبيرة لمصر من خلال تطوير العديد من القطاعات الاقتصادية، مثل: الخدمات المالية، وتجارة التجزئة، والرعاية الصحية، والزراعة، والتصنيع، مع خلق فرص للأفراد والشركات، وتحقيق التنمية الشاملة والنمو الاقتصادي.

 

وفي هذا الصدد، قامت الحكومة المصرية باتخاذ العديد من الخطوات لتعزيز التحول الرقمي، وقد ساعدت هذه الخطوات في ارتفاع معدل نمو قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بنحو 16.7% وبلغ حجم الصادرات الرقمية نحو 4.9 مليارات دولار خلال عام 2022، وقد تمثلت أهم هذه الخطوات في الآتي:

إنشاء مركز الإبداع التكنولوجي وريادة الأعمال (TIEC) لتقديم الخدمات والدعم للشركات الناشئة لإحراز النجاح في المجالات المختلفة التي من ضمنها: التسويق الرقمي، والإدارة المالية، وتطوير الأعمال، والتسويق، والملكية الفكرية، والشؤون القانونية.

إطلاق مبادرة "فرصتنا.. رقمية" بهدف تسجيل الشركات الصغيرة والمتوسطة في بياناتها داخل هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات؛ للمساهمة في إنشاء مشروعات التحول الرقمي الخاصة بالجهات الحكومية. وتقدم المبادرة تدريبات للعاملين بالشركات الصغيرة والمتوسطة؛ لرفع مهاراتهم في مجال علوم البيانات والذكاء الاصطناعي.

 إطلاق استراتيجية مصر الرقمية للخدمات العابرة للحدود (2022-2026)؛ لمضاعفة عائدات التصدير من خدمات التوريد الرقمية.

نفَّذت الشركات الصغيرة والمتوسطة 15 مشروعًا للتحول الرقمي بتكلفة إجمالية 43.5 مليون جنيه، وفازت 16 شركة منها وذلك ضمن مبادرة "فرصتن/ا.. رقمية".

توقيع اتفاقيات مع 48 شركة لإنشاء مراكز تسليم عالمية جديدة أو توسيع المراكز الحالية؛ ليصل العدد الإجمالي بذلك إلى 56 مركزًا، التي من شأنها أن توفر أكثر من 34000 فرصة عمل في غضون ثلاث سنوات.

توجيه 605 ملايين دولار للاستثمار في الشركات التكنولوجية الناشئة في عام 2022، بزيادة قدرها 22% مقارنة بالعام الماضي.

ختامًا، يجب تأكيد أنه من الضروري أن تتخذ الدول -خاصة النامية- خطوات حثيثة نحو التحول الرقمي؛ حتى تلحق بركب الدول الأخرى، وذلك من خلال: تطوير البنية التحتية الخاصة بالاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ونشر الوعي بالاستخدامات التكنولوجية، ومراجعة المناهج التي يتم تدريسها لتتلاءم مع التغيرات العالمية، بالإضافة إلى الاهتمام بتدريس علوم الحوسبة والذكاء الاصطناعي؛ بهدف تحقيق التنمية المستدامة.

google-playkhamsatmostaqltradent