recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

إعلان

"حبات الأمل" قصة للدكتور سعيد محمد المنزلاوي

 


طارق أبو حطب 

تقديم:

عزيزي القارئ الكريم مازلنا نبحر معا في أعماق عوالم الأديب الكبير الدمتور سعيد محمد المنزلاوي القصصية لنغوص سويا في ذواتها الثرية علنا نجد فيها  - كما اعتدنا منه- المتعة و الكفاء فنقدم لك اليوم على صفحات صدى الأمة قصته القصيرة التي عنوانها " حبات الأمل " و هي قصة تتميز بالقصر شأنها شأن نوعها القصصي الذي تنتمي إليه كما يقل فيها وصف الأحداث و يعمد الكاتب إلى اقتضابها اقتابا بعيدا عن الخلل في السرد و تتابع الأحداث الموجزة.


و قصتنا اليوم تميل إلى الواقعية فقد استلهمها مؤلفها من أحداث حقيقية عاشها و عرفها دون أن يصرح فيها بالأسماء الحقيقية مبتعدا بها عن الحكاية المباشرة ليكسبها جانبا من الطرافة و الوحدة الفنية.


و قصتنا مكتملة الجوانب ترتكز على الدعائم الأصيلة لهذا الفن الأدبي كالتكثيف و الإيجاز و تركها انطباعا و تأثيرا واحدا في نفس القارئ.


و حتى لا أطيل عليك أتركك مستمتعا بأحداث قصتنا.


.. القصة..


 

- شمسي وقمري؟

نادت عليهما، فأشرقتا معًا كآيتي الليل والنهار. كانتا ترفلان في زي الصبا والجمال وعلى محياهما ابتسامة تشرق بالأمل.


كانت الأم قد انتهت لتوها من آخر لوحاتها.


 رمقت الابنة الكبرى (نادين) اللوحة، ثم خفضت رأسها؛ كي تخفي دمعة تسللت رغمًا عنها. لم تخفَ عن الأم تلك الدمعة، ولا السبب الذي أثار شجون ابنتها. ولكنها تجاهلت الموقف برمته كي لا تثير بركانًا داخلها وداخل ابنتيها.


- هيا نعد معًا وجبة الإفطار.

قالتها الأم في إصرار وحماس بصوت حاولت بكل ما تبقى لديها من قوة أن تجعله يبدو طبعيًّا وعاديًّا.


 انهمكت ثلاثتهن في إعداد وجبة الإفطار داخل المطبخ، والذي زاحمهم فيه حامل اللوحات والراديو الأثري الكبير الحجم، والذي احتل بمفرده منضدة اسطنبولي كانت من القوة والصلابة ما أهلها لتتحمل ثقله، ومن العراقة ما يجعلها تتناسب معه. كانت إذاعة الشرق الأوسط تبعث في المكان العتيق حيوية وشبابًا. كما كانت الحركة تتم ببطء وحرص كي لا تصطدم إحداهن بالأخرى أو بإحدى أدوات الرسم من لوحات وأقلام احتلت أرفف المطبخ وجنباته.

على مائدة الطعام، خيم الصمت إلا من نظرات بين (نادين) وبين أمها كانت تحمل تساؤلات واستنكارًا، وكانت الأم تتحاشى تلك النظرات.


بعد الإفطار تكفلت الفتاتان بغسيل الأطباق، وبينما كانت الابنة الصغرى (وجدان) تعد فنجان القهوة لوالدتها، والذي تجيد صنعه، كانت الأم على مقعدها الوثير في البلكون المطل على الحقول الشاسعة، زاحمتها (نادين) المقعد وجعلت تطالع في وجه أمها السارح في فضاء الأرض وفضاء السماء، لدرجة أنها لم تشعر بابنتها وقد التصقت بها. لم تنتبه إلا على صوت ابنتها (وجدان)، وهي تحمل فنجان القهوة، وترفع عقيرتها:

- فنجان قهوة بن تركي فاخر.

كانت تقلد صوت الفنانة القديرة "زوزو نبيل" في إحدى المسلسلات، فتفجرت الضحكات من ثلاثتهن.


 وضعت فنجان القهوة بطريقة بهلوانية على المنضدة الأنيقة، والتي اقتنتها الأم من إحدى المزادات لقصور أحد الأثرياء، كانت تحب اقتناء كل ما يحمل عبق الماضي، وتتجلى فيه الأصالة والفخامة.

- فنجان قهوة من قمرك سيدتي الجميلة، وضعتُ فيه إلهامي؛ كي تتحفي جمهورك الصغير بأجمل اللوحات.


قالتها (وجدان) في براءة ثم انحنت أمام والدتها.


 ولكنها ـ دون قصد ـ وأدت بكلامها براءة الضحكات من الأم وابنتها الكبرى.


 فخيم الصمت على ثلاثتهن، نظرت (وجدان) في عين أختها (نادين) فقرأت ما فيهما، فخرجت تعدو وهي تنتحب، تابعتها (نادين)، وقد تفجرت منابع الدمع من عينيها، ما أخفى تورد وجنتيها. لم تقوَ الأم على القيام، فاستسلمت للمقعد، وأطرقت في وجوم، ثم أخفت وجهها بكلتا يديها وراحت تنتحب في صمت.


مرت ساعتان قبل أن تستأذن (نادين) و(وجدان) في الدخول على والدتهما في حجرتها.


 طلبتا التحدث إليها. لم ترد، وأمام إلحاحهما سمحت لهما بالدخول؛ فقفزتا في الحال فوق السرير وأحاطتا بها إحاطة السوار بالمعصم، كانت الأم بينهما كالقلب بين الضلوع. 


- نادين: (لأمها) لماذا ترفضين العلاج؟

- الأم: ومن أخبرك بذلك؟

- نادين: لوحتك الأخيرة تحكي ذلك.

- الأم: إنها مجرد لوحة، وهل للوحة لسان يتكلم؟

- وجدان: ماما، لا تتهربي، فابنتاك ليستا من الغباء بحيث لا تقرآن الرسالة المخبوءة في لوحاتك.


- الأم: (تشيح بوجهها عنهما)

- وجدان: (تتفحص في وجه أمها) هل تريدين الرحيل؛ لتتركي شمسك وقمرك بغير سماء؟

- نادين: (وهي تبكي) أنت السماء، أنت الحياة، بدونك سنموت.


 هل تسمعين؟ سنموت إن تركتنا، سنموت حتمًا.

- الأم: (تحتوي ابنتاها وتغمرهما بالقبلات وبالدموع). 


 وبينما كانت الفتاتان منهمكتان في استذكار دروسهما، سمعا صوت ارتطام شديد في المطبخ، انطلقتا معًا كسهمين أفلتا من قوسين معًا، كانت الأم قد سقطت على الأرض في إغماءة لم تكن هي الأولى. سارعت (وجدان) إلى الهاتف واتصلت بالطبيب، بينما كانت (نادين) تحاول في يأس إفاقة أمها.


 لم يكن الطبيب يسكن بعيدًا، دقائق حتى كان يدق جرس الباب، كان كهلًا قد جاوز الأربعين، لكنه يبدو كشاب في الثلاثين، كان يحمل من التفاؤل والأمل ما يجعله يبث الحياة في الزهور الذابلة ويفجر المياه في الجداول اليابسة.


 صافح (ليلى) بابتسامته الودودة، قاس لها النبض، قطب جبينه، ولكنه راح يطمئنها.


- ليلى: دكتور، اصدقني القول، هل هناك أمل؟

- الطبيب: لولا الأمل ما أشرقت الشمس ولا طلع النهار كل يوم مبشرًا بميلاد جديد.

- ليلى: لا أريد الحياة لنفسي، ولكن من أجل ابنتيَّ.

- الطبيب: جميل! وهذا وحده كفيل بأن تنجح العملية.

- ليلى: ولكن الأطباء أجمعوا أن نسبة نجاح العملية ضئيلة جدًا، وأن إجراء العملية مجازفة دونها الموت.

- الطبيب: وهل اطلعوا على الغيب؟ ولماذا تركزين على النسبة الكبيرة للفشل؟ لماذا لا تتعلقين بالنسبة الضئيلة لنجاح العملية؟

- ليلى: (تطرق في صمت).

- الطبيب: الأمل كفيل بأن يبدل تكهنات الأطباء ويجعل نجاح العملية كبيرًا.

- ليلى: أريد الحياة من أجل ابنتيَّ.


- الطبيب: ومن أجلك أنت، ألا تستحقين الحياة؟

- ليلى: أنا؟

- الطبيب: نعم، إلى متى تتجاهلين نفسك؟ إنك جديرة بالحياة. فقط أحبي نفسك، تمنحك الحياة كل ما هو جميل.

بثت هذه الكلمات الأمل في جدباء روحها، فانتعشت بعض الشيء، وشعرت بقوة تسري في بدنها ما جعلها تنهض وتُشيع بنفسها الطبيب. أوصدت الباب خلفه، ثم هتفت في مرح:

- شمسي وقمري؟

فانطلقت الفتاتان إليها كقذيفتين، أمسكت كل واحدة منهما بإحدى ذراعيها، توسدوا الأريكة تحت النافذة في الصالة.

- الفتاتان: (بحركات تمثيلية) سمعًا وطاعة يا مولاتي ليلى.


- الأم: (في ثقة) سأجري العملية.


نزلت الكلمة على الفتاتين كالغيث، انتعشت روحاهما، وغمرتا بقبلاتهما وجنات الأم وكتفيها ما جعل البسمة تملأ وجهها، وانتشى الأمل في عينيها كأنما أفاق من سُكر.

شهدت الأيام التالية حركة دءوبة بين المعامل والمستشفى للإعداد للعملية. تحدد اليوم، فشعرت (ليلى) بدقات قلبها تتزايد في عنف وأحاط بها القلق كحبل من مسد، فأسرعت تحكي لطبيبها، طمأنها كعادته دومًا، شعرت أثناء المكالمة بدقات قلبها وقد استقرت؛ فسكن روعها. 

 في المستشفى كانت آخر من ملأت عينيها بمرآهما هما ابنتاها، ثم أغمضت عينيها؛ كي لا ترى بعدهما أحدًا.

 خارج حجرة العمليات كانت الفتاتان تبتهلان إلى الله وتجهشان بالبكاء، وكان الطبيب بالرغم من ثباته المعهود وما يحمل من تفاؤل، بدا عليه هذه المرة الخوف والقلق، لم تكن العملية سهلة، كما لم تكن الآلام التي تعانيها بالأمر اليسير.


 مرت سبع ساعات قبل أن يخرج الجراح من حجرة العمليات، هرعوا نحوه، وأرهفوا أسماعهم، كانت البسمة على شفتيه تحمل أسعد خبر كانوا ينتظرونه.

 بعد ساعتين سمح لهم بالزيارة، اطمأن عليها الطبيب، وتركها بين شمسها وقمرها ينسجن معًا من حبات الأمل أجمل اللوحات.

"حبات الأمل" قصة للدكتور سعيد محمد المنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent