عرض. هبة شيبة
التساؤلات جمع تساؤل، مصدر تساءل، والتساؤل لفظة تثير العديد من علامات الاستفهام؛ لإزالة الغموض، والالتباس، والكشف عن كنه الشيء وماهيته.
كما يحمل رغبة محمومة في معرفة الإجابة.
مما يصدر لنا تساؤلًا، أما كان يغني الشاعر ويكفيه السؤال؟ ولأن زيادة المبنى زيادة في المعنى، يكون الجواب: لا، فالتساؤل فيه زيادة معنى غير موجود في السؤال، وبما أنها تساؤل وليست سؤالًا، فإن ثمة انزياحًا عن محدودية السؤال إلى الانفتاح على رحابة التساؤل.
ولأن التساؤل على وزن تفاعل؛ ما يجعلها تتسع لتعدد السؤال، ولتعدد السائلين؛ فثمة طرفان يتساءلان أو طرف واحد يتردد السؤال في نفسه كأنه يسأل ويجيب أو طرف واحد كثر سؤاله، فكأنه جمعٌ يسأل، إنها حومة الأسئلة، يدور في رحاها الشاعر، فيطلق تساؤلاته، ويثيرها، ولكنه لا يجيب، وإنما يترك للمتلقي أن يحمل وحده عبء الجواب.
إنه شرك نقع فيه، فنكون طرفًا في السؤال والجواب معًا.
(متى يستريح النهار؟)
أي نهار هذا الذي يقصده الشاعر؟ وهل اتحد الشاعر مع النهار، فأصبح هو والنهار شيئًا واحدًا؟
إننا أمام صراع بين الشاعر وبين النهار، نال منه الشاعر، ونال هو من الشاعر، فالصراع يعني راحة للنهار، وانسلاخًا من حاضره. والأداة السائدة (متى)، تسأل عن الزمن، ولكن أي زمن بالتحديد، إن النهار ينسحب على رقعة من الزمن تتجاوز واقعيتها وزمنيتها الحاضرة، لتكون مهادًا لزمن ندي لم تشرق شمسه بعد.
ولأن القصيدة من مبدئها لمنتهاها لا تخرج عن دائرة الزمن، فالزمن يؤرقه، يستوقفه، يلهب ظهره تارة يعدو به، وتارة يستوقفه.
والسؤال الذي يلح علينا في إصرار، ما هدف الشاعر من التساؤل، بل من التساؤلات؟ إن الشاعر يفجر طاقة التساؤل في بنية قصيدته، كمثير أسلوبي يحول النسق الشعري إلى كينونة متفاعلة من الرؤى والدلالات المفتوحة.
إن التساؤل هنا بمثابة التربة التي تنشق عنها أكمام الزهر وفي الوقت تفسه تزيل أكمام النخل. إننا مع نوع من الأسئلة يحمل في أمشاجه الإجابة، ولذلك هو لا يريد الإجابة، وإنما يريد سرعة تحققها واقعًا.
فالنهار عنده كزمن لا يعنيه في قليل أو كثير، لأنه يتجاوز كونه مجرد زمن إلى كونه رقعة مكانية وزمانية معًا لتحقق أحلامه، والتخلص من آلامه.
إن بنية التساؤل قادرة على تبني بنية سردية متكاملة بدءًا من تعدد الشخصيات الفاعلة والمتصارعة، إلى الحدث الذي يحاكيه التساؤل المحموم، إلى تغاير زاوية الرؤية، إلى ما تفجؤنا به بنية التساؤل ذاتها من مفارِقة سردية تنهض على المراوغة حينًا، والمباشرة حينًا آخر، مما يمنح المتلقي فرصة لإعادة إنتاج النص وفق بيئته وثقافته، بل وتجربته الذاتية كذلك.
القصيدة، هي "تساؤلات" عنوان مراوغ، زاد من غموضه تجرده عن التعريف؛ ليفسح المجال للخوض فيه دون حد والسير فيه دون انقطاع، والذي يغرينا بذلك أن الشاعر قدم لقصيدته بجملة قال فيها: "هذا القصيد نَتاج تجربة جديدة في كتابة الشعر خضت غمارها"
والجدير بالتقديم أن ينير مجاهل النص، ولكنه زاد من غموضه، وإرباك المتلقي، وإيهامه بأنه سيلج عوالم جديدة، ويسبر أغوارًا بعيدة، ويرحل إلى أرض لم تطأ بعد، خاض غمارها الشاعر ويريدنا أن نخوض معه.
هذه الجملة النثرية التي قدم بها بين يدي الشعر لنصه، هي بمثابة الميثاق الذي ألزم به نفسه، في معركته التي خاض غمارها، وهي معركة الكلمة والوزن والتجربة والشعور.
وكما سلك "أعشى بكر" طريق المتقارب في سرده وقصه، تابعه من الخلف شاعرنا، فخاض تجربته على وزن بحر المتقارب، فقارب بين التفعيلات، وأخذ بسواعدها، وراح يكرر التفعيلة ذاتها محاكيًا حركة سير الركب أو القافلة ويعدو بها في رحلة من الكلمات تركض مشَكِّلة غابة من الجمل، ولكنها لا تسكن مواضعها، وإنما تنتشر عبر الدروب، وتسافر بين الأزمان لاهثة لا مستراح لها ولا يطيب لها القرار، إلا إذا قال النص واستراح قائله، ولذا كثر القصر في أطراف الأسطر، ليستأنف بعدها المسير.
التساؤل الأول:
(متى يستريح النهار؟
ويأتي رفاتي
ألملم هذا الفتات
الغبي)
يتخذ السؤال من الزمان إطارًا له، فالنهار للكد والسعي والحركة الدءوبة.
والسؤال يحمل رغبة محمومة أن يستريح هذا الجسد المجهد، والذي تكسرت فيه كل الرغبات واندكت حصون الأحلام وانهزم تحت وطأة الآلام، بدليل قوله بعدها:
(وأمضي
أفتش عن أغنيات الربيع
وعن أمنيات الصقيع
وأشدو بأصداء عمري
أداعب فجري
الشجي)
التساؤل الثاني، بدأه بقوله:
(متى تستريح النجوم؟)
إشارة إلى سهر العاشق واشتياق المحبين.
(وأشرب كأس
التدني
وخمر العيون تداعب
دني
فألهو بسكري)
إننا أمام صورة أخرى مغايرة للصورة السابقة، الشاعر في الليل غيره في النهار، إن الليل تجسيد للحلم الذي يتوق إليه ولمَّا يأتِ بعد. إنها رغبة في الوصال كي ترتاح الأشواق بعد طول سهر وانتظار.
(وأشتاق يومًا يجيء
النهار)
فإذا ما جاء النهار، نراه في التساؤل الثالث يعيد سؤاله الأول:
(متى يستريح النهار؟
ويقرع بابي
ليحضن فيَّ ضفاف
التلاقي
ويضحى
يعانق شمس الأماني)
إن الشاعر يحمل من الهموم والأوجاع ما يجعل الكلمات تئن وهو ينفثها على رقعة قصيدته دامية محرقة:
(فقد طال فينا دبيب الظلام
وعربد فينا أنين الوئام)
ولا مفر للشاعر من أن يستغيث بالسؤال الذي أصبح يلح به
(متى يستريح النهار؟)
وهنا في المقطوعة الأخيرة تكشف الذات عن أحلامها التي وأدها الليل حتى أمست رفاتًا:
(متى يستبينا السكون
ونحيا لنغزل ثوب التمني
ونمسي رعايا لعرش الفؤاد)
وهذا الرفات الذي راح يلملمه في المقطوعة الأولى، نراه يبذره في ختام قصيدته؛ لينمو من جديد:
(وينمو الرفات
ضياء
ودربًا
وحلمًا
يغني حياة الغرام
وأمضي وتمضي
ويمضي الحمام)
إن نشيد الشاعر الذي يشدو به دومًا:
(ويبقى الشعار
يجيء النهار
يجيء النهار)
والنهار ـ هنا ـ يتجاوز حيز الزمن الضيق، إلى أن يغدو تلك العصا السحرية التي تحيي رميم رفاته، وتحقق أمانيه العِذاب، وتسكن أشواقه وتجعل حياته شدوًا وعمره غناء.
ويلاحظ في بنية التساؤل التي صدَّر بها الشاعر كل مقطوعة من المقطوعات الأربعة، ترددها كالصدى، وإلحاحه عليها كأنها أمنية محمومة يحيا بها.
والشاعر لا ينتظر إجابة على تساؤلاته، وإنما يبني عليها مبررات لتلك التساؤلات، وكأنه بهذه المبررات والدوافع، يثير النهار أن يأتي، والمساء أن يرحل. متجاوزًا بالتساؤل وظيفته، ليكون دعاءً، يلهج به ويكرره رجاء تحقق أمانيه.
إننا أمام حديث منفرد تجلى فيه صوت الشاعر المفرد في هيمنة لضمير المتكلم غزت جنبات النص، وهي من صور الحوار الدرامية، وأعني به ـ الحديث المنفرد ـ وهو "شكل شعري تتكلم به شخصية مفردة إلى سامعين صامتين في لحظة حرجة لتكشف عن كل من الوضع الدرامي وعن ذات نفسها"
(معجم المصطلحات الأدبية، إبراهيم فتحي، ط1، التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، الجمهورية التونسية، 1988م، ص361).
فهي ليست مناجاة، كما يبدو من الوهلة الأولى.
كما أن استخدام الشاعر للفظة (متى)، وهي ظرف زمان يأتي استفهامًا عن زمان. فالهيمنة في النص للزمان، وهو الشخصية الرئيس التي يدور حولها النص. إن الزمن هو الذي يؤرق الشاعر، فهو يحيا بين زمانين: زمان يعيشه ويعاني وطأته وقسوته، وزمان يحلم به ويتشوفه. وما بين الزمانين، الواقعي والمأمول، تتضاعف معاناة الذات، والتي عبر عنها بالزمن الحاضر فهو لا يزال يحيا الزمن الأول. ولذا كثرت الأفعال المضارعة؛ لتعبر عن الزمنين معًا، كأنهما حاضران بين يديه، يعيش لوعة الأول ووطأته، ويتوق إلى الثاني في أشواقه ولهفته.
وليس بخاف براعة الشاعر في توظيف إمكانات اللغة في التعبير عن تجربته، فأحلامه رفات، والربيع أغنيات، والعمر أصداء، والغرام عصي، وهي استعارات مستعرة، تتقد منها الأبيات وتحترق، ولكنه راح يخفف من حدتها بالجرس الموسيقي الذي أشاع به في النص بهجة تراقصت معها الكلمات على أتون الأشواق، كقوله:
(وأطعم طير الزمان
من الشوق
مني
وأشرب كأس
التدني
وخمر العيون تداعب
دني)
وقوله:
(يغني حياة الغرام
وأمضي وتمضي
ويمضي الحمام)
ونعود لما قدم به الشاعر قصيدته، ونتساءل معه، ما التجربة الجديدة التي قدمها الشاعر في كتابة الشعر، ولأجلها خاض غمار الكتابة؟
ولعل الجواب يكمن في ذلك البوح واللابوح، في الوصول واللاوصول، في الاشتياق لمجيء النهار، فإذا أتى أنَّ من وطأته وناشده أن يستريح.
إن مفتاح الولوج لعالم القصيدة في لفظة "النهار"، فهو مرآة للشاعر، يجمع فيها بين الواقع والحلم، فالشاعر هو النهار في لوعته، وهو النهار في أحلامه وغرامه.
هو الرفات، ذلك الفتات الغبي، وهو كذلك الرفات ينمو ضياء ودربًا وحلمًا.
لقد قدم الشاعر من خلال حديثه المنفرد صورة كاملة الملامح لشخصيته وما يعتريه من مشاعر داخلية وهواجس نفسية، باح لنا بما خاضه من تجارب خاصة، من خلال تيمتين حصر بينهما ذاته، تداعي الذكريات ممثلة في الاسترجاع، واستشراف الغد ممثلًا في الاستباق.
وبينهما يحيا الشاعر يومه بين أمس لا يزال يعاني شدته ووطأته، وغدٍ يحيا بهجته، جامعًا بذلك الأزمان كلها في تجربة فريدة ومميزة. رد الشاعر فيها الختام على البدء، بما يمثل القفل، ما جعل قصيدته بعد طول مسير تئن؛ فيلزم الشاعر أسطره الأخيرة بالقصر، جاعلًا من الحذف والسكون في تفعيلة المتقارب إيذانًا بالتوقف في انتظار أن يجيء النهار.
