توظيف الرمز في قصيدة "وتذبحني ابتسامة» للشاعر الدكتور طه النفاض
كتب/ د. سعيد المنزلاوي
عتبة العنوان
الابتسامة: بهجة، فرحة، سعادة. تأتي في مقابل الدمعة والحزن لتمسح الدمعة، وتزيل الحزن، وتستبدل بهما فرحة وسرورًا.
ولكن الشاعر ذكر مع الابتسامة الذبح، وهو فعل مراوغ، فالذبح إزهاق للروح وقتل، وهذا معنى حسي، ولكنه قد يكون ذبحًا معنويًّا، إما ذبحًا محببًا للنفس، مرغوبًا فيه ومطلوبًا؛ فتخضع الشاعر لصاحبة الابتسامة خضوعًا تامًا ينم عن استسلام ورضا، فإنها بتلك الابتسامة إنما تأسره وتروضه وتستميله إليها. وإما إيلامًا وإيذاءً للنفس يفوق كثيرًا الذبح الحسي.
إن للابتسامة تأثيرًا يتجاوز الذبح لغيره، بدليل حرف العطف (الواو)، والذي يسبق الفعل المضارع والذي لا يني يتكرر وتتكرر معه عملية الذبح، ولعل هذا التكرار ونسبته للذبح، يرشح أن يكون الذبح إيلامًا للنفس ووأدًا للضحكات. فاعل الذبح هي الابتسامة، لتقع آثارها على الشاعر الناطق بضمير المتكلم في النص.
والعنوان بهذا المنطق يفصح ويخفي، يبوح ولا يبوح، وفي الكتمان تتوارى تساؤلات وتساؤلات، تبحث جميعها عن إجابات، عن كنه الذبح وما يصاحبه، وعن مصدر الابتسامة، وعن سر تلك الابتسامة، والتي لها من القوة والتأثير أن تذبح رغم ضعفها ووهنها، وبأي آلة تذبح، ومَن تذبح.
بين يدي النص:
تبدأ القصيدة بداية زمنية من خلال ظرف الزمان (الآن)، الموغل في الآنية، ويقترن بالزمان تحديد المكان:
(الآن أسكن وحدتي)
وهذا التركيب يحيل الوحدة إلى مكان أو وطن يأوي إليه الشاعر. إنها حكاية عن آنية الحدث والحدث هو السكن، والمكان هو الوحدة.
ومتى يسكن الإنسان وحدته؟ إذا عز الأنيس وغاب الجليس واستوحش المكان بساكنيه.
(الآن أسكن وحدتي
أحيا
وضاحيتي القيامة)
إن الشعور بالاغتراب المكاني، جعل الشاعر يأنس وحدته، بل ويلتزمها أبدًا. إن الركون إلى الوحدة والتوغل داخل دروب النفس لهو بُعدٌ عن الأنام واحتماء من تطفل العيون المتلصصة. إنه شعور اعترى الشاعر لتجربة مر بها يومًا، وكان ضحيتَها قلبُه.
وبالرغم من أنه يسكن وحدته ـ وحده ـ إلا أنه يتوجه بالخطاب إلى الآخر، والذي لم يعلن اسمه، وإنما اكتفى بذلك الخطاب الذي ينم عن تحاور الذات مع الآخر، وهذا الآخر له المقدرة على الهيمنة على الذات، والسير بها وجهة أخرى:
(يا سيدي دربي يضيقْ
قلبي الممزق في الطريق
ما زال ينقصه الوصول
لقلب صندوق القمامة)
إنه يحمل رفات قلب ممزق نفاه الجسد ولم تعد له إليه حاجة. إن قلبه أمسى كتلك المخلفات التي يجب التخلصُ منها.
توظيف الرمز
رمزية السندباد:
السندباد شخصية أسطورية من شخصيات ألف ليلة وليلة، استدعاه الشاعر في السياق الشعري بما عرف عنه من رحلاته البحرية السبعة، والتي بكثرة ما لاقى فيها من أهوال إلا أنه نجا منها جميعًا. ولكن سندباد شاعرنا سيتعرض للقتل:
(وسيقتلون السندباد
يا سندبادْ
من قال أنك تستطيع
بأن تراهن في المزادْ؟)
إن رمزية السندباد هنا مقرونة بالشعور بالهزيمة التي تنسحق فيها آدمية الإنسان. فقد وئدت براءته وتجرد عن آدميته وأمسى في بلده غريبًا لا حق له فيها.
وقد جاء استدعاء السندباد عند الحديث عن المزاد، والذي يشير به إلى مزاد بيع الوطن أو الخصخصة، والذي ينظم طرح شركات الدولة في سوق المال، والذي وضعته الدولة عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعين. وقد وفق الشاعر في اختياره لهذا الرمز المزدوج، والذي يوهمنا بسندباد أسطوري مخفيًا السندباد الحقيقي وهو تاجر بغدادي مقيم في عمان، فالعلاقة بين المزاد والتجارة جد وثيقة. وتبقى الهيمنة للرمز في أن الشخصية الأسطورية لا تبعد كثيرًا عن الشخصية الحقيقية، فقد كان تاجرًا وولاه التجار عليهم شيخ تجار المدينة.
ويتأكد هذا الحضور للرمز في خطابه:
(مقتولة فينا البراءة
والآن تكبتنا الحقيقة
الآن نطرد كالباب من الحديقة)
ويتسع مدلول الرمز، فيصبح السندباد هو الشعب، هو أولئك العمال في القطاع العام، والذي يباع تباعًا، ويتم الاستغناء بعد الخصخصة عن قطاع عريض منهم. فالقطاع الخاص هدفه الربح، ولا يعير العمال أدنى اهتمام.
إن البيع لم يكن لشركات القطاع العام وحسب، وإنما لأولئك العمال:
(يتساومون الآن في هذي البلاد
وأنا المقيد في الدجى
وأنا المزادْ)
رمزية السياف
وينفتح رمز السندباد على رمز آخر هو السياف، والذي يرتبط بالعصر الذي عاش فيه السندباد وهو العصر العباسي، ويرتبط كذلك بقصص ألف ليلة وليلة. والسياف رمز الهيمنة السلطوية، التي احتشدت فيها المؤثرات الذكورية، والديكتاتورية السياسية. بيد أن للسياف عند الشاعر طه النفاض رمزية أخرى، إنه يمثل الحلم في الخلاص من تلك المآسي والهزائم والانكسارات والتخلص من ذلك الواقع المهين والمتخاذل، وذلك الذل والذي قهر الذات.
كما أن الحديث عن السياف تردد كثيرًا في ثنايا النص، فتردد وحده أربع مرات، ووردت جملة "يا سيدي السياف" مرتين. وجاء الحديث عن القتل في أكثر من موضع ارتبطت جميعها بحديثه عن السياف وإليه.
ويلاحظ أن السيف يعد محورًا رئيسًا من محاور النص. إن السيف سيد وصاحبه سيد:
(ولأن سيفك سيدٌ
أقسمت أنك سيدي
وزرعت يأسي في المدى)
وهو في استدعائه للسياف، يمهد به للنهاية:
(يا سيدي السياف
ما ذنبي إذا
رفرفت يومًا كالحمامة؟)
إنها إشارة إلى الثورة، والثورة في عهود الظلم والقمع موءودة:
(والآن تخمد ثورتي
الآن أكسر سيفيَ الحرَّ البليد)
وتأتي المفارقة اللاذعة في قوله:
(وسيعلن السياف أنه حارسي
ويداه تختضن الزنادْ)
إنه زمان الزيف والكذب والخداع. وحين يمسي السياف حارسًا، فإن ذلك إعلان عن القتل وترقب قاسٍ له.
إن السياف هنا يضع بيده النهاية، ولا مفر من الوصول لتلك النهاية. ولا مفر من ضربة السياف، تلك التي بدأها بالاعتراض.
وأمام تخاذل الذات وانهزامها ويأسها من واقعها المرير، نسمعه يهتف بالسياف:
(يا سيدي السياف عجل بالنهاية
أجهز عليَّ فلست وحدك قاتلي)
وبالإلحاح ذاته يقول:
(أجهز عليَّ فإن روحي قادرة
أن تقبل الطعنات منذ صدورها
حتى دخولي المقبرة)
إنه لا يبالي بالموت، بل يرحب به في زمانٍ:
- مقتولة فينا البراءة.
- لا شيء تفعله السعادة.
إن الشاعر رسم لنفسه صورة قاتمة هي انعكاس للواقع المتردي الذي يعيش فيه:
- وأنا المقيد في الدجى.
- وأنا المدنس في غبار تذللي.
- (قدمت قلبي دون جدوى للفدا
ومحوت من عمري غدا)
سياحة أسلوبية في فضاء النص:
جاء التناص في النص محاطًا بغلالة من الرمز الكثيف:
(جاءوا على قمصاننا
بدمٍ كذب
وغيابة السياف تنتظر المزيد)
إنه يتحاور مع النص القرآني الجليل في سورة يوسف، والتي تحكي تلك الفرية التي اختلقها إخوة يوسف عليه السلام؛ ليوهموا بها أباهم أن الذئب قد قتل أخاهم. ولكن الكذب كان باديًا يصرخ في صلف كاشفًا زيف دموعهم وتباكيهم.
وقد ورد القميص بلفظ الجمع، إسقاطًا على الحاضر الذي تتم في الإبادة الجماعية للشعب الثائر، كي تخمد ثورته، ويواري السيف سوأته.
إن قوله:
(وغيابة السياف تنتظر المزيد)
باستبدال السياف بالبئر، زيادة في الطغيان والقمع الذي يتعرض له الشعب. إن غيابة البئر تبشر بالنجاة، ولكن غيابة السياف تنذر بالهلاك. فالصورة أشد قسوة وقتامة تنزف مع الكلمات دمًا من نصل السياف والذي لا ندرك كنهه ولا من أين تأتينا ضرباته، ولكننا دومًا نهبًا لتلك الضربات.
(أجهز عليَّ فلست وحدك قاتلي)
إن أسباب الهلاك تحيط بنا من كل ناحية وصوب. ويأتي التناص بالسلب في قوله:
(أجهز عليَّ فإن نجوتُ فلن أُفيءْ
لن أستطيع العفو عند المقدرة)
حيث يستحضر سماحة النبي صلى الله عليه وسلم عندما عفا عن أهل مكة يوم فتحها فقال قولته الخالدة "اذهبوا فأتم الطلقاء". لكن الشاعر والذي وجد في الموت راحة وينشد السياف أن يعجل بالنهاية، فإنْ عجزَ فإنه لن يستطيع أن يعفو عنه. إن الخلاص هو حلم الذات في النجاة من حياة زائفة امتهنت فيها كرامة الإنسان.
إسقاطات النص:
بالقصيدة عدد من الإسقاطات على الواقع، من خلال استدعائه للفظة تحمل من الإشارات ما يسطر سفرًا كاملًا، مما يؤكد معايشة الشاعر للأحداث الجارية، وأن الشعر هو نبض الجماهير، يترجم عنها ويعايش آلامها وأوجاعها، وليس فقط انغلاقًا على الذات في برجها العاجي.
ومن الإشارات قوله:
(والآن يصبح موطني
أرض الجرادْ)
إن الإشارة للجراد في هذا النص جاءت في طيات الحديث عن المزاد وقبضة الأمن. إن زمن كتابة القصيدة هو عام ألفين وأربعة، وهو ذات العام الذي تعرضت فيه مصر لهجمة من هجمات أسراب الجراد الأحمر قادمة عبر الحدود الجنوبية حيث غزت أسراب كبيرة منه سماء القاهرة ووصلت إلى محافظات البحيرة والمنوفية والإسكندرية. لم يكن الحادث عرضًا، ولكن كانت له تداعيات اقتصادية ونفسية، ما جعله يسكن في وعي الشاعر واستحضاره من خلال تلك الإشارة الموجزة، والتي تحمل في طياته سردًا لمجتمع تعرض للمجاعة بسبب هجمة الجراد على محاصيله الزراعية.
ومن الإشارات التي أفصح عنها النص قوله:
(في ظل أمطار الردى
أحتاج خوفي الآن أكثر)
إنه يشير إلى الأمطار الحمضية التي تعرضت لها مصر في تلك الفترة.
إنه يختزن في ذاكرته الأحداث وينظمها في قصيده. كما نجد تلك الإشارة الواردة في لفظة واحدة ولكنها تحكي قصة دامية:
(لبلادٍ الطوفان يأخذها
وتصطنع البلادة)
أي طوفان يقصد؟
إنه يرجع بنا عقدًا من الزمان سابق على نظمه للقصيدة وتحديدًا في الثاني من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وأربعة وتسعين، حين تعرضت أغلب مدن ومحافظات مصر لموجة مفاجئة من الأمطار شديدة الغزارة تسببت في سيل عنيف تعرضت فيه قرية درنكة للغرق وهدم المنازل والاحتراق بسبب انفجار مخازن تكرير البترول.
لقد حشد الشاعر تلك الأحداث الدامية في ذلك الاستدعاء.
لقد قام الشاعر برصد ما تعرضت له مصر في تلك الفترة من ظواهر طبيعية السيول وهجوم الجراد أو كوارث من فعل الإنسان كالأمطار الحامضية.
موسيقا النص
نسج الشاعر تجربته على نغمة بحر الكامل، والتي تفاوتت تفعبلاته ما بين الخبن والمزيد ومع جهورية بحر الكامل تتآزر معه الأصوات الانفجارية محدثة في النص دويًّا وبكاء وعويلًا:
(يا سيدي دربي يضيقْ
قلبي الممزق في الطريق
ما زال ينقصه الوصول)
وتأتي أصوات الصفير ضمن الأصوات الاحتكاكية وكلاهما في مقابل الأصوات الانفجارية، يحكيان حالة اليأس التي تعتري الذات:
(وأنا المدنس في غبار تذللي
أجهز عليَّ فإن روحي قادرةْ
أن تقبل الطعنات منذ صدورها)
وقوله:
(هم يقسمون بأنهم جاءوا لنا
كي يمنحوا أجيالنا وطن السعادة)
مَن هؤلاء؟
ومن أين جاءوا؟
وهل تحقق وعدهم؟
(يا سيدي رفقًا بنا
لا شيء تفعله السعادة)
ولعلك الآن مثلي تبحث في جنبات النص وزواياه وأركانه عن الابتسامة، والتي صدرها في العنوان وختم بها المقطع الأول من القصيدة. إنه لا وجود لتلك الابتسامة، إلا في العنوان وحده، وإنما تم اختزالها في ثنايا النص، وتغيرت دلالتها من ابتسامة إلى شعور حاد بالمرارة نتيجة الانكسار والانهزام من واقع كل ما فيه منهزم. واقع لا يسمح للبسمة أن تكبر مفترشة الحاضر إلى المستقبل، أو تولد ويكون لها وجود شرعي في وطن غابت فيه الحرية وانسحقت فيه الآدمية وهوت فيه كل المبادئ. إن النص من ألفه إلى يائه سعي نحو النهاية المنشودة وهي القتل، حين لم تعد للحياة جدوى:
(الآن أمشي والفؤاد ضحيتي
أبكي
وتذبحني ابتسامة)
إن الذبح هو خضوع الشاعر
إن الشاعر وهو يرفل في القيود والأغلال وتكميم الأفواه، أمسى وحاله:
- لا شيء يبقي لي الوسامة.
- سأظل أفترش الرصيف.
- وزرعت يأسي في المدى.
إن القصيدة عرض صادق للمآسي التي تعرض لها الوطن في تلك الحقبة. واستطاع أن يشحن كلماته بطاقة من الإيحاء والرمز ما جعلها قادرة على حمل تاريخ أو حادثة دون أن يسرد تلك الأحداث ولكنه اكتفى بالإشارة الخاطفة إليه في لفظة تنبه في المتلقي ذاكرته ليعود لتلك الأحداث وذلك التاريخ.
وقد وفق الشاعر في استخدام الرمز والتعبير به عن تجربته والتي تماهى فيها مع المجموع، فهي ليست تجربة ذاتية، وإنما هي حس جمعي ومعايشة للواقع ومعاينة يومية للأحداث الجارية وتأثيراتها على الفرد والمجتمع.