recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

"لقد كبرت" كتب د. سعيد محمدالمنزلاوي

 "لقد كبرت" 

كتب د. سعيد محمدالمنزلاوي

 


عندما يحين يوم مولدي من كل عام لا أشعر بتقدم العمر، ولا أحفل بالسنة التي انصرمت من عمري. إلا أنني في هذا العام شعرت أنني كبرت جدًا، وكأنني كبرت عقدين من الزمان جملة واحدة.

انتابني شعور غريب وأنا أخطو بقدمي في مرحلة من العمر يصاحبها الوهن والعجز، وتخمد فيها جذوة الشباب.

 بعد أن جالت تلك الخواطر ببالها، وقعت عينها على ساعة الحائط العتيقة، وتسمرت عينها بها لدقائق، تابعت غرب الدقائق وهو يقترب في وثبات متسارعة ليلتحم بعقرب الساعات معلنًا انتصاف الليل. لملمت بقايا خواطرها؛ ونهضت لتنام. حاولت أن تستجدي النوم، ولكنه تأبى عليها. 

أسندت ظهرها بوسادة وجلست القرفصاء على فراشها، ولتسمح لشريط حياتها أن يمر أمام ناظريها. توقفت عند أحلامها وآمالها والتي لم تتحقق.

- لقد مضى الشباب ومضت معه كل أحلام الشباب.

سلسلة من الإخفاقات مرت بها.

- لم أكن أدير حسابًا للوقت، ولم أضع الأمور في نصابها.

كثيرة هي الأماني التي أهدرت، والأحلام التي أريقت على عتبة الزمن. حاولت أن تستجدي النوم مرة أخرى، لكنه كان أكثر إباءً وتحديًّا. نهضت من فراشها، وصنعت لنفسها فنجانًا من القهوة.

- أحب تذوق القهوة من يديك، لها نكهة فريدة.

- ابتسمت لمديحه، وأحست أنها صنعت إنجازًا يضاف إلى رصيدها كزوجة.

تنهدت وهي تتجرع تلك الذكريات بمذاق القهوة. وبانتهائها من آخر رشفة تبددت حبات النوم من عينيها. جلست على مقعدها الوثير في مكانها المفضل بجوار المدفأة. تناولت من الطاولة المجاورة كتابًا في محاولة لقتل الوقت، لم تدري كم من الوقت مضى منذ بدأت تقرأ. رنت بعينيها إلى ساعة الحائط الرمادية العتيقة، شكل عقربا الساعة زاوية قائمة إلى الأسفل. نحت الكتب جانبًا، وراحت تتأمل الحكمة من مرور الزمن، وتساءلت في براءة:

- لِمَ لا يتوقف الزمان لنلملم شتات أمورنا، ونتدارك بعض ما فاتنا؟

كان عقرب الثواني في دورانه أشبه بالسياط تلهب ظهرها، وكاد طنينه أن يصم أذنيها. سمَّرت بصرها عليه، كتن عدوه بالزمن يمثل تحديًا صارخًا لها:

- لماذا يعدو الزمن بهذه السرعة؟

- .................................

- لماذا لا يبطئ الزمن من سيره الحثيث؟

- .................................

لم تجد جوابًا لتلك التساؤلات المحمومة. فجال لها خاطر، راق لها؛ فقامت على الفور لتنفيذه. راحت تتوكأ على عصاتها؛ حتى بلغت مكان الساعة، رفعت غطاءها الزجاجي، وأمسكت بكلتا يديها عقرب الثواني، وراحت بما أوتيت من قوة وإصرار تنازع الثوني وتمدد فيها، حتى اتسعت الثانية، وأمكنها أن تسكن بجسدها داخلها. تباطأت حركة العقارب/ وأمست الساعة دهرًا. شعرت بثقل أجفانها، فاستسلمت للنوم وراحت في سبات عميق، تتابعت عليها الأحلام والرؤى. أيقظها عقرب الدقائق عندما تحرك خطوة واحدة؛ فتحت عينيها، تثاءبت، وهي تراقب الزمن. كم كانت دهشتها عندما وجدت الزاوية القائمة كما هي، بم تمر عليها سوى دقيقة واحدة. ابتسمت لتلك المصادفة العجيبة/ وهتفت كالطفل:

- لقد نجحت في أن أبطئ من عدو الزمن وكسر طغيانه.

ابتسمت، ولكن سرعان ما يبست بسمتها، وجف ريقها وهي تلوك هذه الكلمات في فمها في امتعاض:

- وماذا يجدي، وقد تسرب العمر من بين يديَّ؟ 

تمددت بأطرافها داخل الثانية، ثم برقت عيناها لخاطر جديد:

- الآن يمكنني أن أطيل الأمد وأحقق ما كنت أطمح إليه، وسأبدأ من الآن.

حاولت النهوض من رقدتها، فلم تستطع، نظرت حولها داخل إطار الثانية، ثم تأوهت:

- آه! لقد نسيت عكازتي في الأسفل.

قطبت جبينها في أسى، وضحكت ساخرة من نفسها:

- حتى عندما توفر لديَّ الزمن، صرت عاجزة عن العمل!

زحفت بوهن حتى خرجن من إطار الساعة، اعتمدت على عكازتها حتى وصلت إلى مقعدها الأثير بجوار المدفأة. تناولت كتابًا وراحت تطالع فيه، مضى وقت لم تحسب له حسابًا. رنت بعينيها إلى ساعة الحائط، راعها تقدم الزمن بسرعة كبيرة.

كانت الشمس قد توسطت السماء، وهي لا تزال في جلستها. شعرت بالجوع الشديد، وكأنها لم تأكل من قبل. أعدت لنفسها مائدة حوت الجبن والمربى والبيض المسلوق والخبز.

في الأصيل ذهبت إلى (الشرفة) بصحبة فنجان القهوة الذي تجيد صنعه؛ تطالع المارة في سيرهم ومعاشهم وحركاتهم الدءوبة، بينما كانت عقارب الساعة تدور في غير هوادة معلنة انتصارها في حبور.

 "لقد كبرت"   كتب د. سعيد محمدالمنزلاوي
دكتور طارق عتريس أبو حطب

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent