recent
أخبار ساخنة

لوعة وفراق.. بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي

لوعة وفراق.. بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي


لوعة وفراق.. بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي



حين التقينا، كانت سحابة من الحزن قد سكنت محياها، فكساه مسحة ضبابية، إلا أنها لم تسطع أن تطمس ذلك الجمال الريفي الآسر، فبدت بالرغم من حزنها أيقونة للجمال، أضفى عليه الحزن قدسية بدت في انكسارها وكأنها دومًا في خضوع وخشوع.  

حاولت أن أستشف سر ذلك الحزن الذي سكن محياها الذي كان نضيرًا يومًا ما، لكن أجفلت عيناها، فتسللت دمعتان، جاهدتْ أن تكفكف دمعها، لكنَّ عبير خديها كان قد وشى به.

أخبرتني أنها حزينة، كان وجهها نديًّا بالدموع. طلبت منها أن تكف عن نبش رفات حزنها. 

- دعي الأحزان ترقد في سكون، لا تردي لها الروح؛ كي لا تسكنك. 

قالت بصوت بلغ من ضعفه أنني كنت أسمعه بالكاد:

- إنها الآن تسكن بين عظمي ودمي.

وسال الدمع بين جفنيها ونحرها، وكان لقلبها وجيف سرى في كفيها ارتعاشًا واضطرابًا. وسرحتْ بعينيها بعيدًا، حتى إنها لم تعد تراني. 

رجوتها في ابتهال:

- لا تجددي الأحزان، ولا تَشُقِّي لنفسك طريقًا إلى بلاد الحزن. 

عادت من غفوتها واكتست وجنتاها صفرةَ أوراق الشجر في فصل الخريف، ربَّتُّ على كفها، كانت باردة كليل الشتاء. 

حاولت أن أستكنه منها ملامح حزنها، كان ثمة حائل، يحول بينها وبين البوح به. رضيتْ أن تطوي حزنها داخل صدرها المكلوم، وتكتوي ـ وحدها ـ بجذوة الأحزان.

حاولتُ الاقتراب منها أكثر، والتوغل داخل حياتها، والتفرس في دقائقها، تحايلتُ كي أتسلل بين أنفاسها الحارقة، في كل مرة كنت أحاول الاقتراب منها، كانت تبتعد، حتى بدت لي لغزًا يستعصي عن الحل.

أعدت عليها رجائي، ألا تنساق وراء الحزن، فأومأت برأسها، فتساقطت من عينها حبات الدُّر، فأحرقت زهرة السوسن، التي كانت تغفو في راحتيها كالطفل الوليد. 

تركتها بين طيات حزنها المستكين، وعبرتُ جراحها التي لا تزال تنزف، ونياطُ قلبي تتمزق لحزنها. ولكن لا حيلة لي في سبر أغوار ذلك الحزن، ولا التكهن بأسبابه؟

كان من الممكن أن أنفض يديَّ من الأمر برمته، ولكني كنت منجذبًا إليها بلا إرادة مني، كأنما هناك باب موصد، ومفتاحه معي وحدي. كان ثمة سرٌّ يتوارى خلف حزنها، لكن ما هو ذلك السر؟ هذا ما أَجهدَ عقلي، حتى رقدتُ في موضعي في حجرة المكتب دون أن أشعر بنفسي.

استيقظت في صباح اليوم التالي، وأنا أعاني من ألمٍ في رقبتي من أثر نومي على المقعد بطريقة خاطئة. 

تصفحت رسائل (الواتساب)، كان ثمة رسالة منها، تخبرني فيها أنها تشعر بالضيق، أردفتها بوجه حزين.

تواصلت معها قرابة الساعتين، وبذلت قصارى جهدي؛ كي أعرف سبب حزنها، ولكني رجعت بخفي حنين.

استأذنتْ مني لقضاء بعض الأمور، وذهبتُ لتناول فطوري، كان الهاتف على المائدة، تتسابق إليه أناملي لأتصفح رسائلها مرة ومرة وأنا ألوك الطعام في فمي.

استوقفتني جملة "بل أنتَ" وتبعتها جمل ثلاثة، قامت بحذفها قبل أن أقرأها. تُرى ماذا كتبتْ، ولماذا قامت بمحوها؟ هل لهذه الجمل علاقة بي؟ لا شك بذلك بدليل الجملة التي نجت من الحذف؛ لتزيد من تعقيد الأمر.

تنبهت أنني أكلت أكثر من اللازم، فقمت عن الطعام، وعدت إلى مكتبي لأعالج فك شفرات هذا اللغز المحير. وأدرت هذا الحوار الافتراضي بيني وبينها:

- بل أنت.

- أنا؟ أنا ماذا؟

- أنت سبب ما أنا فيه من حزن.

- يا إلهي، لم أكن أعرف أنني ذلك المجرم الأثيم، الذي أثار كوامن حزنك.

- نعم، ثم فاض الدمع من عينيها.

حاولت أن أواسيها، لكنها لكمتني بقولها:

- تقتلون القتيل وتمشون في جنازته.

حاولت أن أعرف منها ماذا جنيت، لكنها انصرفت ولفها الظلام بغلالته، فلم أعد أراها.

سخرت من نفسي، ما هذا الحوار العقيم؟ لقد وصلت لنفس النتيجة، لغز بلا إجابة.

نهضت لأداء عملي، والذي استغرق سحابة النهار. كان الهاتف خلالها مغلقًا.

عدت إلى البيت منهكًا، فتحت الجوال؛ لأفاجأ بسيل جارف من الرسائل والمكالمات. حاولت الاتصال بها، كان هاتفها مغلقًا، تناولت العشاء وأنا أتصفح رسائلها في نهم شديد. أكثر من ثلاثين رسالة ما بين دموع وشكوى من الحزن، دون أن تخبرني بكلمة واحدة عن ماهية هذا الحزن أو من تسبب فيه. مما جعلني أزدرد الطعام على مضض.

 دخلت حجرة مكتبي؛ لأقوم ببعض الأعمال، كنت بين الفينة والأخرى، أطالع الهاتف، لعلها تتصل أو تقوم بإرسال بعض الرسائل، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. كان هاتفها لا يزال مغلقًا، مما زاد من قلقي عليها.

 ولم تكن هناك أية وسيلة أخرى للتواصل معها.

لعلكم تتساءلون من أكون؟ وما علاقتي بها، بل ومن تكون هي؟ ثمة تساؤلات في حياتنا الإجابة عنها تزيدها إبهامًا ومحاولة فك شفرات لغز ما، يزيده تعقيدًا. جمال الحياة أن نسلم بها كما هي، دون أن نرهق أدمغتنا بأمور لا تقدم ولا تؤخر.

إنني بكل بساطة أنت أيها القارئ، فلنتعاون سويًّا في مساعدة هذه الأنثى، ولنتوقف عند هذا الوصف لها، فربما كانت فتاة أو امرأة، المهم أنها ذلك العنصر المقابل لك في تكويننا البشري. لن أخبرك عن مهنتي، فكما قلت لك، أنا وأنت، فردٌ واحد يجابه حل لغز امرأة حزينة، فقط لأنها امرأة، دون التوغل في كنه علاقته بها. حسبي وحسبك أن كلانا يأنف أن يرى امرأة حزينة.

لكن الاقتراب من تلك المنطقة كمن يرعى حول الحمى، وقد سقطنا في شباكه، أعني شباكها، وزاد تعلقنا بها دون أن أجد تفسيرًا لذلك التعلق ولهذا الانجذاب. ربما صادفتْ قلبًا خاليًا، فسكنت فيه، وأنا الذي عشت عمري كله أحيط قلبي بسياج منيع من تسلل القلوب إليه، ولكنها استطاعت اقتحامه، بل والتوغل فيه. ولكن لماذا هي بالتحديد؟ لا أدري. ولعل جمال الحب يكمن في كونه يأتي بلا موعد وبلا تخطيط وبلا استعداد، مما يجعلك فريسة سهلة في يد قناصك، أقصد المرأة.

تعددت اللقاءات بيننا، في كل مرة كنت أحاول أن أبوح لها بمشاعري نحوها، في كل يوم كان حبي لها يكبر، حتى جاء يوم استجمعت شجاعتي؛ وعزمت أن أبوح لها بما أكنه لها من حب عظيم.

 وفي المكان الذي اعتدنا أن نلتقي فيه، سبقتها إلى هناك، وجعلت أدرب نفسي على ما سأقوله له، وأن أمني نفسي بعناق يطفئ جذوة الشوق والحنين إليها.

 وجاءت تتهادى كنسيم الصبا، كان وجهها نضيرًا، متلألئًا كالبدر. فاستبشرت، وقلت في نفسي، لعل ما بها مثل ما بي من الحب والحنين.

 قلت لها، والكلمات ترقص في فمي:

- أريد أن أخبرك بشيء مهم.

دون أن تنظر إليَّ، قالت:

- لا أظنه أهم مما سأقولك لك. (ثم دارت دورتين وهي تحرك سبابتها في حبور)

تلهفت أن أسمع منها، قلت لها:

- كلي آذان صاغية، أطربيني، أريد أن أفرح.

قالت في دلال حسدت نفسي عليه:

- اليوم ستعرف سر حزني الدفين، بل الحزن الذي ولى وراح.

نسيت ما كنت مقبلًا أن أبوح لها به، ورحت كسابق عهدي معها، أصغي لها باهتمام بالغ، وأطرقت، فإذا بها تسرد عليَّ قصة عودتها لحبيبها، بعد مدة الفتور والبعد، وهذا كان سبب حزنها.

قلت لها، في نبرة العتاب:

- ولماذا لم تخبريني بذلك من قبل.

قالت بطريقة طفولية:

- كنت أخشى من الفراق، من خيبة الأمل، لا أحب أن أظهر ضعيفة أمام أحد.

ثم راحت تقص عليَّ تفاصيل قصة ذلك الحب، استرسلت كثيرًا، وشردت طويلًا، لولا أنني أجلس على مقعد، لكنت قد سقطت أرضًا.

انقشعت عن وجهها كل سحابات الحزن القديم، وأشرق محياها، وهي تخبرني بموعد زفافها، انفرجت أساريري وأنا أبارك زواجها الميمون؛ فمنحتني ابتسامة عريضة، أبانت عن أسنان ناصعة تحاكي في نضاراتها حبات اللؤلؤ. لوحت لي بيمناها، وهي توليني ظهرها، بادلتها التحية، اختفت عن عيني ولا زلت ألوح لها بيدي، وأردد وداعًا وداعًا.

رحلت وقد خلفت في قلبي غصة وحزنًا عميقًا لا أزال أجد مرارته في حلقي حتى بعد مرور عقد من الزمان.

google-playkhamsatmostaqltradent