«أثقل القيود وهم نظنه حياة».. قصة قصيرة
بقلم: حسن سليم
كانت حرارة يوليو تحاصر الغرفة، والمروحة تدور بكسل، تصدر أنينًا يشبه سخرية مكتومة. جلس على الأرض، الهاتف بين يديه يلمع تحت ضوء نافذته، والعرق ينحدر ببطء من جبينه، يختلط بنبض ثقيل يطرق قلبه.
فتح ألبوم الصور، وكل ضغطة كانت كأنها تغرس سكينًا في قلبه. وجوه مبتسمة، أماكن زارها، أصوات ووعود سجلها الزمن في ذاكرته… ظنّ يومًا أن كل ذلك خالد، أنه لا يستطيع العيش بدونه. تذكّر نفسه وهو يتشبث بها، بأحاديث منتصف الليل، بضحكات ورسائل كان يظنها حياة كاملة، ثم أدرك الحقيقة المؤلمة: ليس كل ما نحمله يستحق أن يبقى.
أغلق الهاتف للحظة.. وضعه على ركبتيه.. ثم مرر يده على وجهه المبتل من العرق. الحرارة كأنها تتآمر مع الحنين لتخنقه.. في كل مرة يمد يده ليبدأ الحذف، يسمع صوتًا داخليًا يهمس بخبث: انتظر… ربما تحتاجها يومًا، ربما تعود الأيام.
نهض ببطء، اقترب من النافذة. نظر إلى الشارع الخالي تحت أشعة الشمس، والهواء أسخن من الداخل. قال بصوتٍ مبحوح، كمن يعلن حكمًا نهائيًا:
"إذا كانت النهاية… فلتكن كاملة".
عاد إلى الداخل. جلس قرب المروحة التي تدور بلا نية إنقاذ، أمسك الهاتف كمن يمسك قلبه، ثم بدأ الحذف. صورة تذوب في الظلام، رسالة تختفي، ضحكة تُسحق تحت إصبعه. كل لمسة كانت خنجرًا، لكنها خنجر يقطع الحبل الأخير. الفيديوهات، الأصوات، الكلمات التي كانت تضيء الشاشة في ليالٍ بعيدة… كل شيء اختفى.
توقّف عند آخر ملف، يده تتردد.. أغلق عينيه بقوة وضغط على "Delete". فجأة، أصبحت الشاشة بيضاء، بلا ذكريات. هاتف نظيف، لكن قلبه ما زال مليئًا بالحرارة التي أشعلها الفقد.
سحب نفسًا طويلًا، كأنه يغرق في هواء ثقيل. المروحة تواصل الدوران، صوتها يذكّره بأن الحر لم ينكسر بعد. لكنه شعر لأول مرة بخفة غريبة. ليس لأنه هرب من الذكريات، بل لأنه دفنها. يعلم أن المعركة القادمة لن تكون ضد الصور، بل ضد نفسه، حين تمد يده لتبحث في النسخ الاحتياطية، حين يوسوس له الحنين بفتح الأبواب المغلقة.
أيام تمرّ، والشمس لا ترحم، والليل خانق أكثر من النهار. وفي كل ليلة، يلسع الحنين جلده كنسمة ساخنة. أحيانًا يقترب من الهاتف، أصابعه ترتعش فوق الشاشة، ثم يتذكر صحراء الأيام الماضية، يتذكر العطش الذي لم يروه أحد. فيسحب يده كمن يبعدها عن لهب.
وفي مساءٍ خانق آخر، جلس أمام المروحة التي تدور كأنها تسخر من صموده. رفع زجاجة ماء دافئة، ارتشفها ببطء، وأغمض عينيه. شعر بسلام ثقيل يتسلل إلى صدره، سلام لا يشبه البرودة، بل يشبه الخلاص.
ابتسم هامسًا لنفسه:
أثقل القيود وهم نظنه حياة.. وما انتهى.. قد انتهى.
ثم وضع الهاتف بعيدًا عنه، وأطفأ الإشعارات، وأغلق آخر نافذة على الماضي. نام تلك الليلة على صوت المروحة البطيء، والحر يشتعل في الخارج، لكن في داخله… سقطت آخر شمس.
