«مدينة لا تبحث عنك إلا حين تغيب».. قصة قصيرة
بقلم: حسن سليم
كانت مدينة بلا اسم، بلا ملامح، تعيش على أطراف خريطة روحه، لكنه ظل يراها أوضح من أي مكان آخر. لم يحبها لأنها جميلة، بل لأنها كانت بحاجة إليه. كانت مدينة لا تُضيء إلا حين يمر، ولا تتنفس إلا حين يُرهق رئتيه كي يُبقيها على قيد الأُنس.
لم تطلب حبه يومًا، لكنها طلبت وجوده دائمًا. كانت تريد دفء صوته في أروقتها، وهدوء خطاه في ساحاتها، وملامحه التي تعتادها الجدران، دون أن تسألها يومًا: هل ترينه فعلًا؟
كانت تهمّشه دون وعي، تؤجّل كلامه، وتضعه دومًا في قائمة "لاحقًا"، ثم تغضب إن غاب قليلًا.
ذات مساء خريفي، جلس على عتبة قلبه المكسور. نظر إلى أطياف المدينة داخله، وقال لها في صمتٍ لم يصله: أين كنتُ حين فقدتني؟
أدرك أن كل ما قدّمه كان يُؤخذ كأمر مُسلّم به، كالماء الذي لا يُشكر، والهواء الذي لا يُفتقد إلا عند الاختناق.
وفي تلك الليلة، وبدون إنذار، جمع ما تبقى من ظلّه، وانسحب.
انسحب دون رسالة، دون عتاب، دون رغبة في أن يشعره أحد بأنه مهم. ترك خلفه كل شيء، حتى نفسه القديمة.
استفاقت المدينة في اليوم التالي رمادية، لا تغريدة طيور، لا نكهة صباح، لا دفء في الزوايا. بحثت عنه، لا حبًا، بل حاجةً... ولم تجده. سألته الجدران: لماذا اختفيت؟ لكنه لم يكن هناك ليجيب.
شيئًا فشيئًا، أدركت المدينة أنها لم تكن تحبه. كانت فقط معتادة على أن يكون متاحًا. متوفرًا. حاضرًا.
أما هو، فكان في مدينة أخرى، أصغر، أبسط، بلا أسوار عالية ولا أسئلة متكررة. جلس أمام مرآة لم يواجهها من قبل، ورأى ملامحه الحقيقية، تلك التي لم يكن يراها حين كان مشغولًا برسم ابتسامته على وجه مدينة لا تبتسم إلا حين يُرضيها.
همس لنفسه: لقد كنت كرمًا زائدًا في موضع لا يحتاج سوى الحد الأدنى من الصدق.
ثم كتب في دفتره المهجور:
بعض المدن لا تحبك… بل تحب ما تأخذه منك.
وبعض القلوب لا تشتاق إليك… بل تشتاق إلى الراحة التي كنت تجلبها.
حين تدرك ذلك، لا تكرههم… فقط لا تعد إليهم.
وهو لم يعد.


