recent
أخبار ساخنة

رمزية المدينة.. قراءة في قصة "مدينة لا تبحث عنك إلا حين تغيب" للقاص حسن سليم

 

رمزية المدينة قراءة في قصة "مدينة لا تبحث عنك إلا حين تغيب" للقاص حسن سليم

رمزية المدينة.. قراءة في قصة "مدينة لا تبحث عنك إلا حين تغيب" للقاص حسن سليم


بقلم د. سعيد محمد المنزلاوي


في قصة " مدينة لا تبحث عنك إلا حين تغيب"، للقاص حسن سليم، تتسع رمزية المدينة، فتكون معادلًا موضوعيًّا للعلاقات السامة عامة، وللزوج الناشز خاصة. 

ويتجلى هذا المعادل الموضوعي في تلك الحكمة التي يختتم بها قصته:

- "بعض المدن لا تحبك… بل تحب ما تأخذه منك".

- "بعض القلوب لا تشتاق إليك… بل تشتاق إلى الراحة التي كنت تجلبها".

إن المدينة معادل موضوعي للمرأة، والمدينة التي تبغض من يأوي إليها، هي نفسها المرأة التي تتنكر لمن تأوى إليه.

حين تجد نفسك تعطي ولا تأخذ، وتقدم ولا تنل حظك، وتبذل قصارى جهدك، دون أن تُمنح الفضل وتُشكر، وحين تجد نفسك بلا هوية، فقد تلاشيت ليبقى غيرك، عندها، اهجره، وانفض يديك من صحبته وحبه؛ كي تربح ذاتك، وتستعيد كيانك وكينونتك. 

بين يدي النص:

لكل منا مدينة يأوي إليها، بعد طول ترحال، وتأوي هي إليه، ويتقاسمان معًا خبز الحياة والمحبة ويرشفان كأس الوداد على الظمأ. 

أما أن تتنكر له مدينته، وتجحد نعمته، وتأخذ منه ولا تعطيه، ويستجديها فتمنعه، فهذه علاقة غير متكافئة، يعيش أحد طرفيها طفيليًّا على الطرف الآخر، دون أن يهبه أي شيء. هو فقط يحيا على أشلائه، ولا يُعنى بألمه أو بجراحه، ولا يبحث عما يسعده، أو يسعى لإرضائه. 

مثل هذه العلاقة غير المتكافئة، علاقة جائرة، جارت على الحقوق وتجنت على من أعطى وقدم دون مقابل. 

أنت لست مجبرًا أن تحيا دور الضحية طوال حياتك. إننا نعيش الحياة مرة واحدة، فلتبحث عن شجرة وريفة الظلال تمنحك نسمة عليلة في هجير الأيام التي تحياها. ولتنشد السلامة لقلبك، بمن تحنو عليه، وتبادلك حبًا بحب، ووفاء بوفاء، وبرًّا ببر. 

وبالنظر إلى المدينة من الناحية الجغرافية، نجد أنها مدينة بلا اسم، وبلا ملامح، تعيش على أطراف خريطة روحه"، وهذا الوصف المجهول لتلك المدينة، يسمح بتعدد الرؤى والأوصاف لها، مما يجعل القارئ شريكًا للقاص في رسم ملامح تلك المدينة، والتي أبرز أوصافها أنها تعيش على "أطراف خريطة روحه"، فالخيال يجنح بنا إلى عوالم غير مادية، وغير ملموسة، بل وغير مرئية.

ثمة علاقة من نوع خاص بينه وبين المدينة/المرأة، علاقة طفيلية؛ غير متكافئة، فهي "لا تُضيء إلا حين يمر، ولا تتنفس إلا حين يُرهق رئتيه كي يُبقيها على قيد الأُنس". وهذا ملمح مهم في العلاقة بينه وبين مدينته، والتي تعتمد كلية عليه، بينما تعاملها معه ليس تعامل الند وإنما هي دومًا "تهمّشه دون وعي، تؤجّل كلامه، وتضعه دومًا في قائمة "لاحقًا". إنه حب التملك، حتى صار ما يقدمه لها طوعًا، فرضًا وأمرًا مسلمًا به. حتى إنها "تغضب إن غاب قليلًا".

وفي لحظة تنوير، جلس يتأمل حاله، ويراجع تلك العلاقة القائمة على المنفعة من جانب واحد فقط، هو جانبها هي، وأخيرًا يضع يده على حقيقة تلك العلاقة الواهية "كل ما قدّمه كان يُؤخذ كأمر مُسلّم به"، حتى إنه فقد كينونته وأضحى ظلًّا لغيره، ثم كان قراره الصائب أن "جمع ما تبقى من ظلّه، وانسحب"، تاركًا "كل شيء، حتى نفسه القديمة".

وتأتي لحظة الإفاقة، فتفيق المدينة على غيابه، عبثًا سألت عنه، وعبثًا بحثت عنه، فقد ارتحل للأبد، وهنا أدركت حقيقة علاقتهما، وهي "أنها لم تكن تحبه. كانت فقط معتادة على أن يكون متاحًا، متوفرًا، حاضرًا". وعلاقة طفيلية كتلك العلاقة، لا يمكن لها أن تنهض دومًا على قدمين ثابتتين. ومن ثم كان انهيارها سريعًا.

وهناك كان البديل الملائم لروحه ونفسه، "في مدينة أخرى، أصغر، أبسط، بلا أسوار عالية ولا أسئلة متكررة. جلس أمام مرآة لم يواجهها من قبل، ورأى ملامحه الحقيقية، تلك التي لم يكن يراها حين كان مشغولًا برسم ابتسامته على وجه مدينة لا تبتسم إلا حين يُرضيها". وحين أدرك تلك الحقيقة لم يكرههم، ولم يعد إليهم.

إن الكاتب يضع أنامله على الجرح، لا لينكأه، فينزف، وإنما لنتبه إليه؛ فنستيقظ. 

هي صرخة أو إنذار على مطية الكلمات، أن أفق أيها المغلوب، واستنصر أيها المظلوم، واستشفى أيها المكلوم، هي دعوة ألا نستسلم لتلك العلاقات المسمومة، وألا نستمر في دور الضحية حتى النهاية. 

إن الكاتب يضع أيدينا على أهم قاعدة للعلاقات الناجحة، وهي التي تقوم على الأخذ والعطاء، أن يعرف كل طرف ما له وما عليه، ويبذل قصارى جهده لإرضاء شريكه، وهو يعلم أنه سيمنحه من العطاء مثل الذي قدم. هذه هي العلاقات السوية، وهي تدوم ما دامت الشمس في فلكها، وتبقى مع الأيام، ما دارت الأرض حول محورها.


google-playkhamsatmostaqltradent