recent
عاجـــــــــــــــــــــــل

«شجرة اللبلاب».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي

 

«شجرة اللبلاب».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي

«شجرة اللبلاب».. قصة قصيرة بقلم: د. سعيد محمد المنزلاوي 


في الحوار الذي دار بيننا، قلت لها:

- لا تنبشي الماضي، بل حاولي نسيانه.

كانت السماء تهطل بشدة، فقامت إلى النافذة، تبعتُها، أشارت إلى ما أحدثه المطر في الساحة الترابية من حديقة المنزل، ثم قالت بصوت متهدج:

- أترى تلك الشروخ في أديم الأرض؟ إن بقلبي شروخًا مثلها، بل وأبعد عمقًا.                                                                                                                

هممت أن أتكلم، لكني وأدتُ الكلمات على شفتي. ماذا تجدي الكلمات الصماء لقلبٍ امتلأ بالندوب والشروخ!

ضممتها إلى صدري بعد لأي، كان لقلبها رجيف كالمرجل، أراحت خدها على كتفي، وراحت تنتحب، ثم رفعت نحوي وجهًا نديًّا بالدموع.

ما أشبه أديم وجهها بأديم الأرض، توقف المطر، لكن لم تتوقف دموعها عن الجريان.

أغلقتُ النافذة، وسرنا معًا إلى المدفأة، ورحت أقلب تلك الجذوات المشتعلة، ولم أدرِ أن أديمها كان أشد حرارة منها.

سألتها في رجاء:

- هل يمكن أن تغفري لي ما مضى، أن تصفحي عني، وتطوي صفحة الأمس الذي ولى؟

أجحفلت عيناها، وسرحت بذكرياتها إلى ذلك اليوم البعيد، ولكنه لا يزال يحيا بيننا، مفسدًا كل لحظات السعادة التي نمر بها. يومها كنا حديثي عهد بالزواج، وكنت مهمومًا ببناء مستقبل لنا، وأنفقت سنوات في العمل الدءوب والسهر والسفر من أجل تحقيق الثراء الذي ننعم به اليوم، عشر سنوات مرت، تجاهلت فيها رغبتها في الإنجاب، كنت أرى ذلك عائقًا لي في تلك المرحلة، تعاميت عن بلوغها الأربعين يوم بنيت بها، وانسحب من تحت قدمينا بساط العُمر، حققتُ الثروة والمال، وفقدنا آخر فرصة أن يكون لي منها الولد. 

كثيرًا ما توسلتْ إليَّ أن أحقق لها حُلمها في أن تصبح أمًّا، وانشغلتُ في زحمة العمل عن الوفاء بوعدي لها.

أفقت من الذكرى، فإذا بها تناغم دمية ترقد بين ذراعيها، سرت في جسدي قشعريرة، وشعرت كم كنت أنانيًّا وقاسيًا معها.

همَّتْ بالقيام، فأومأت بيدي أن تجلس، جلست وهي تحمل في عينيها تساؤلًا مبهمًا. قلت لها:

- ما رأيك، لو تبنينا أحد الأطفال؛ كي لا تشعرين بالوحدة؟

أومأت برأسها في انكسار علامة النفي، ولم تتوقف حركة رأسها، حتى اعتذرتُ عن جريرتي.

عاد المطر إلى الهطول مرة أخرى، ولكن أشد، أبرقت السماء، فأجفلت عيناها، وكان صوت الرعد يزيد في ارتعاشتها، لففت ذراعيَّ حول كتفيها، فسقطت الدمية، قلت لها في رجاء:

- سنحاول مرة أخرى. إن الطبيب قد أخبرني أن فرص الحمل لا تزال باقية. 

تهدج صوتها بالبكاء؛ فخرجت كلماتها أشبه بالنواح:

- إنني أتعذب تحت مبضع الطبيب، وأعاني أكثر عندما تفشل كل محاولة في أن أصبح أمًّا.

ثم علا صوتها، وإن شابه الخدر:

- لماذا حرمتني من الإنجاب، وكنت لا أزال صالحة أن أنجب لك البنين والبنات؟

هممتُ أن أتكلم، لكني أطبقت فمي في استخذاء للمرة الثانية. ماذا عساي أن أقول؟ وبأي حجة أدافع عن نفسي؟

تفلتتْ من بين ذراعي، وانحنت لتلتقط دميتها، وراحت تناغمها كأم تحاول أن تنيم طفلتها.

رحتُ أواسيها؛ كي أخفف من وطأة حزنها، لكن صوت الرعد بدد كلماتي، فذهب صوتي هباءً.

مرت عدة أيام وأنا أحاول إقناعها أن تتابع مرة أخرى مع الطبيب، كانت تخشى أن تفقد آخر أمل لها في الإنجاب، وكنت أخشى أن تنهار. ولكن لا مفر من السير في هذا الطريق إلى آخره، وإن كانت نسبة النجاح لا تتعدى العشرة بالمائة. وبالرغم من ذلك حاولنا التشبث بهذا الأمل الضئيل.

أخذنا شوطًا طويلًا في الفحوصات والتحليلات، وكانت في كل مرة تموت فيها مرات ومرات، ولكنها كانت صامدة صمود الجبال، كنت أسمعها تبتهل إلى الله أن يرزقها بالولد، وكنت أريد لها الولدَ؛ لتقر به عينها.

مرت علينا تلك الشهور دهرًا، أهملت خلالها عملي، وتفرغنا سويًّا لتحقيق الحُلم.

لم أبالِ بالنفقات الباهظة، حتى اضطررت إلى بيع الكثير من الأصول التي أمتلكها، وأنفقت كثيرًا من المدخرات. لكني لم آلُ جهدًا، كنت أكفِّر عن جريرتي وظلمي لها. طافت بنا سحابات اليأس، وكدنا أن نتوقف أكثر من مرة، لكننا تشبثنا ببقايا حبات الأمل. كانت نتائج التحاليل مبشرة هذه المرة، واتبعنا التعليمات بحذافيرها. 

حتى جاء يوم اجتمع فيه صفاء صفحة السماء مع صفاء وجهها، أخبرتني أنها حامل. اعتصرتها بين ذراعي من شدة الفرح. كنت أول مرة أرى دموع الفرح الباردة تغمر عينيها وتسيل على وجنتيها فتغسل عنها ذلك الحزن الذي خيم فيها طويلًا.

عادت إليها نضارة وجهها وابتسامتها. في كل يوم كانت بطنها تكبر فيه، كنت أحس بخفة، وأنا أتخفف من ثقل جريرتي معها. شعرت بأنني لم أتزوج إلا من بضعة أشهر، أما الأعوام العشرة المنصرمة، فكانت قاتمة وحالكة كليل غاب عنه القمر. 

جاء فصل الشتاء بصقيعه القارص، لم يكن لها دثار إلا بين أضلعي، زاد التقارب بيننا، وانقشعت سحائب الهموم، فلم يعد لها وجود.

كانت ليلة شاتية من ليالي شهر يناير، عندما حلت علينا كريح الصَّبا، كانت قطعة من المشاعر الدافئة والحنين، ملأت ضحكاتها جنبات البيت بهجة ومرحًا.

لم نكن في أحسن حال من الناحية المادية، فقد كلفنا حضورها كل ما لدينا من أصول ومدخرات، ولكننا لم نذق طعم السعادة إلا عندما رزقنا الله بها.

ست سنوات مرت كحلم الكرى، كانت زوجتي تضفر لها شعرها الذهبي، قبل أن تودعنا بقبلاتها العِذاب إلى حافلة المدرسة. أوصيتها ألا تنزع عنها معطفها، وأوصتها أمها أن تأكل كل طعامها. هرعنا إلى النافذة، لوحت لنا بيديها الصغيرتين، وتعلقت أبصارنا بالحافلة، حتى غابت عن أبصارنا.

نظرت إلى وجه زوجتي، كانت البسمة تملأ جنبات وجهها النضير. وكان المطر قد شق لنفسه مجارٍ في الساحة الترابية للحديقة، التقت أعيننا، ثمة مسحة من حزن طفيف عبرت خديها، وسرعان ما انقشعت، فعاد تورد وجنتيها.

تدثرت بين ذراعي، فلم تبالي بصوت الرعد ولا بما يحدثه المطر من شروخ في أديم الأرض.

مرت أيام الشتاء، ونمت تلك البذور التي نثرتها ـ قبل مجيء الشتاء ـ في أرض الحديقة، بينما تسللت زهور اللبلاب وأطلت بعبقها من النافذة.


google-playkhamsatmostaqltradent