الشحاذ
قصة قصيرة للأديب د. سعيد المنزلاوي
كتب د. سعيد محمد المنزلاوي
كنت تجلس في انتظار القطار المتجه إلى الإسكندرية، شاردًا في همومك، حين داهمك أحد المتسولين، يسألك بعض النقود.
كان كهلًا في الخمسين من عمره، جميل المحيا، تشي حمرة وجهه وتدفق الدماء منها على رغد عيشه وسلامة بنيته. ليس عليه من أمارات البؤس إلا جلباب شبه بالٍ؛ ربما ليقنع الناس بفاقته وعوزه.
ابتسمت في أسىً، وقلت له:
- حالي أسوأ من حالك، لقد اقترضت الأجرة من صديق.
لم يصدقك الشحاذ، وراح يلح عليك في الطلب، وأمام إلحاحه، قلت له:
- لا تغرك ثيابي، ولا مظهري، أنت أحسن حالًا مني.
كنت تحمل في صوتك نبرة أسى، كنت تود مساعدته، ولكن ما في حوذتك من المال، يفي بالكاد بأجرة المواصلات، لا غير.
كانت هذه هي المرة الأولى، التي تضن فيها على سائل بالعطاء، لقد تبدلت بك الحال، وأصبحت في شدة الحاجة والعوز، ما يجعلك ـ لولا بقية من حياء ـ أن تمد يديك للناس مستجديًّا.
كانت نبرة صوتك من الصدق، ما جعلها تمس قلب المتسول، فمد يده في جيبه، وأخرج ما جمعه منذ الصباح؛ ليقتسمه معك.
وجمت من فعله الفجائي، أنت الذي لم تمد يديك لمخلوق قط، بالرغم من فقرك وعوزك، كنت ترى أن أزمتك توشك أن تنتهي، وتعود لسابق عزك القديم. لكنها الأيام دول، ودوام الحال من المحال، ولابد أن تسترد يومًا ما، ما ضاع منك أو بعضه. ولكن انتظار هذا اليوم طال عليك حتى يئست من طول الانتظار.
رفضت بشدة عطية الشحاذ، وشكرته. ما إن غادر حتى انحدرت دمعتان جاهدت أن تبقيهما في محجريهما، ولكنهما غادرتا، وتتابعت خلفهما الدموع. قلت في نفسك:
- هل انحدر بي الحال لهذا المنحدر.
أطلقتها في زفرة حارقة، تصدعت لها جنبات نفسك المهترئة. ورفعت للسماء وجهًا نديًّا بالدموع. كانت حشرجة صوتك وأنت تدعو أشبه بمحرك سيارة، استُهلك كثيرًا فوق عمره الافتراضي. اختلط الدعاء بالرجاء، والدموع بالعويل، وارتعاشة اليدين بخفقان القلب.
كانت ضراعتك لله أن ينتشلك من هذا الواقع المهين، وأن تسترجع آدميتك المنسحقة مرة أخرى.
لقد سعيت كثيرًا؛ لتغيير واقعك وطرقت كل ما أتيح لك من أبواب، ولكن الدنيا في كل مرة كان توليك ظهرها، وهي تخرج لسانها لك هزءًا وسخرية.
عدت بالذاكرة إلى الوراء، إلى ذلك اليوم الذي خذلك فيه من كنت تظنه الخلَّ الوفي، كان يظهر لك شرًّا وعداوة مبعثها غيرة لا حد لها.
- هل أضرمت الغيرة النيران في قلبه، وأوغرت صدره؛ حتى لم يتورع أن يحرقني بلظاها؟ وأنا الذي لم أسئ إليه يومًا.
أفلتتْ من قبضة يدك الذكرياتُ؛ ورحت تهوي على ظهرك المهترئ بسياط من الندم لا ترحم، لولا بقية من جَلدٍ، لذهبت نفسك حسرة وألمًا. ثم أدرت بينك وبين نفسك هذا الحوار العقيم:
النفس: وماذا يجدي الندم؟ هل سيعيد إليَّ ما ولَّى من أيامٍ؛ لأعيد صياغة أحداثها من جديد؟
أنت: ليتنا نمتلك تلك القدرة على تغيير أقدارنا، وإلا لتبدلت أحوالنا جميعًا إلى سعادة وهناءة وفرح وسرور.
النفس: ولكن ما الذي يجعلك واثقًا في أنك ستكون سعيدًا؟ لا تراهن على اختياراتك، فنظرتك دومًا قاصرة. ولكن القدر..
أنت: (مقاطعًا) القدر؟ القدر، هو لغز الحياة الأكبر، وإننا في قبضته لا نستطيع أن نفلت أنفسنا ولو برهة واحدة، ولا أن نغير من أقدارنا شيئًا.
النفس: يكذب مَن يقول أنني صنعت نفسي بنفسي، أو أستطيع صنع مستقبلي.
أنت: هههه، ما نحن إلا كريشة عاجزة كل العجز عن اختيار وجهتها، إنها فقط تستسلم لمصيرها في مهب الريح.
شردت في تلك الأفكار عن القدر قرابة الساعة، حتى انتبهت على صفير القطار، وهو يعلن ـ من بعيد ـ عن قدومه؛ لتسمح لتلك الأفكار أن تنام في سكون في مكان ما داخل عقلك، قبل أن تستعيد نشاطها من جديد. ونهضت مسرعًا؛ لتلحق بإحدى عربات القطار، كانت مزدحمة إلى درجة أنك لم تجد إلا موضعًا لقدم واحدة، وبقيت قدمك الأخرى معلقة.
ربما سنحت لك الفرصة أن تبدل بين القدمين، ولكن أن تريحهما معًا على الأرض، هذا ما لم يكن بالأمر المتاح.
وبالرغم من غرابة الوقفة، بل وسوئها، إلا أن الألم الناجم عنها دفع عنك شلالًا من الأفكار الزاحفة، كان سينجرف على ذهنك دفعة واحدة، لو كنت عثرت على مقعد وثير ومريح.
- تبًا للأفكار، تعرف كيف تتصيد الواحد منا، وتقض عليه نومه وراحته.
لكنك الآن غير مرتاح في وقفتك تلك، وغير راض بوضعك، ولا شغل لك إلا أن ترفع قدمًا وتحط أخرى، وتدور بعينيك، ربما تعثر على موضع يتسع لقدمين، ولكن كلما توقف القطار في محطة، ازدحم أكثر بمن يستقلون القطار، فحمدت الله على أن توفر لك هذا المكان والذي يتسع لقدم واحدة.
رمقت في أول العربة أحد الباعة، وهو يحمل صندوقًا على كتفه، وأشفقت عليه، كيف يستطيع عبور تلك الكتل البشرية، والتي تقف صدًا منيعًا يعوق أية محاولة لاقتحامها، ولكنه استطاع أن يشق لنفسه طريقًا وسط الزحام، ويسير بين البشر المكدسين في العربة بسلاسة يحسد عليها، وعندما اقترب منك، كدت تفقد مكانك، وتعلقت في الهواء لبرهة، قبل أن تستوي قدمك مرة أخرى على الأرض. اعترض أحد الركاب بأن هذا موضع قدمه، ولكنك تشبثت بحقك، وكأنه ميراث أبيك. اقترب القطار من الإسكندرية، فخلت بعض المقاعد، وتنفست الصعداء، وأنت تمدد قدميك المكدودتين في سعادة والهواء البارد ينعش صدرك العاري مجففًا العرق اللزق.
وما كدت تشعر بالراحة بعض الشيء في قدميك؛ حتى زاحمتك الأفكار بعد أن نفضتْ عنها النعاس؛ ليذهب بك التفكير مذاهب شتى في كافة الاتجاهات والمستويات والأصعدة، حتى كاد دماغك ينفجر أو تجن. واختلط التفكير في يومك مع التحسر على الماضي، بالخوف على المستقبل، كل ذلك في آن واحد.
- رباه، أليست في حياتي الغابرة يومًا مفرحًا، تفتر له شفتاي المتيبستين عن ابتسامة واحدة.
تريد أن تضحك؟ ها ها ها. ها أنت الآن تضحك، ولكن سخرية من نفسك، ولا مبالاة بواقعك المخزي. لا أدري، وهذا الشأن شأنك، هل أنت راضٍ، أو تراك غير مبالٍ بما يجري لك؟ شتان بين الرضا واللامبالاة. ولكنك استطعت أن تجمع بينهما، قادك الرضا إلى التحمل، وأعانتك اللامبالاة على أن تلوك سخريتك من نفسك كما تلوك العلكة، تطحنها بضروسك، ولكنها لا تتلاشي، وعندما تملها، تمجها من فيك غير آسفٍ ولا ناقم.
توقف القطار في محطة الوصول، وسرت في ركب السائرين، مئات من البشر كانت تقودهم عربات القطار، تتنقل بهم بين البلدان، وتقطع بهم مئات الكيلو مترات. وخارج محطة القطار، تفرق هذا الحشد المهيب في شتى الدروب والجهات، وسرت وحدك إلى بيتك، كان قريبًا من محطة القطار، وكثيرًا ما أيقظتك صافرة القطار، فتنتبه من نومك دون أن تنظر في ساعتك. فالقطارات من الدقة بحيث لا تتقدم عن موعدها ولا تتأخر دقيقة واحدة.
لكنك في هذه الليلة لم تستطع النوم، كان ثمة صراع بين شتى الأفكار الشاردة، تجمعت جميعها؛ ربما لتنسيك ألم قدميك من طول الوقفة في القطار، وربما لتثأر منك.
- هل بيني وبينك ثأر قديم؟
سألت الأفكار في سذاجة، تُحسد عليها. ولكنها كانت من الخبث أن أحجمت عن الإجابة، فقط كل ما فعلته هو أن استدعت كل شاردة وواردة، وتراصت بجمعها على الخوان بين يديك، ورحت تحملق فيها بعينيك وتدور بينهن، تلقيك فكرة لأخرى، وتنقلك شاردة لأختها، حتى بزغ الفجرُ، وما كدت تُغمض جفنيك المثقلين بالنعاس، حتى أقبل القطار بصافرته المدوية؛ ليوقظك ليوم جديد، تحياه بين شوارد الأفكار.
