recent
أخبار ساخنة

حسن سليم يكتب: شرق أوسط بلا إسرائيل

 

حسن سليم يكتب: شرق أوسط بلا إسرائيل

حسن سليم يكتب: شرق أوسط بلا إسرائيل



يمكن أن نتصور شرق أوسط مختلفًا، شرق أوسط بلا إسرائيل، شرق أوسط تنتهي فيه صفحة الصراع الأطول في العصر الحديث، وتبدأ مرحلة جديدة تكتب فيها الحكاية من دون رائحة البارود وأزيز الرصاص.. إن مجرد تخيل هذا المشهد يفتح أبوابًا واسعة أمام احتمالات سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية لم يعرفها سكان المنطقة منذ أكثر من قرن.. في هذا الشرق الأوسط الجديد، تختفي من الخريطة تلك الدولة التي كانت محور النزاعات والتحالفات الطارئة، ليجد العرب والمسلمون أمامهم فرصة تاريخية لإعادة صياغة واقعهم وفق مصالحهم وأحلامهم.


من الناحية السياسية، سيشهد المشرق العربي إعادة تشكل عميقة في بنيته وعلاقاته.. فلسطين الموحدة، التي تعود كاملة السيادة على أرضها، ستكون قلبًا نابضًا للمشرق، وحجر زاوية في بناء منظومة سياسية إقليمية تتجاوز الخلافات التي غذاها الصراع لسنوات طويلة.. الأردن وسوريا ولبنان سيجدون أنفسهم أمام جار مستقر، لا جدار فاصل ولا حواجز ولا نقاط تفتيش، ما يفتح المجال لاندماج اقتصادي وأمني لم يكن ممكنًا في ظل الاحتلال.. في ظل هذه المعطيات، قد تنشأ تكتلات سياسية جديدة، ربما تحمل اسم «رابطة دول المشرق العربي»، تكون نواتها التنسيق المشترك في السياسات الخارجية والأمنية، وتوحيد الجهود في المحافل الدولية للدفاع عن مصالح المنطقة.


على المستوى الاقتصادي، فإن زوال بؤرة الصراع المزمنة سيوفر مليارات الدولارات التي كانت تذهب إلى سباقات التسلح والإنفاق الأمني، لتتحول إلى استثمارات في البنية التحتية، والطاقة المتجددة، والتعليم، والصحة.. يمكن لخطوط التجارة القديمة أن تعود للحياة، فالموانئ الفلسطينية على المتوسط ستفتح بوابات جديدة لمرور السلع بين الخليج العربي وأوروبا، والممرات البرية ستختصر الزمن وتخفض التكاليف.. إعادة إعمار فلسطين وحدها ستكون مشروعًا ضخمًا يجذب رؤوس الأموال من داخل المنطقة وخارجها، ويوفر مئات الآلاف من فرص العمل، ليس فقط للفلسطينيين، بل لكل من يشارك في هذه النهضة من الدول المجاورة.. فالأسواق ستندمج، والحدود ستصبح ممرات للتعاون لا حواجز للعزلة، مما يخلق قوة شرائية هائلة قادرة على جذب كبريات الشركات العالمية.


الأثر الأمني لهذا التحول سيكون عميقًا، فمع انتهاء الصراع العربي الإسرائيلي ستختفي معظم أسباب النزاعات المسلحة على حدود فلسطين، وستتراجع التوترات الإقليمية التي استنزفت المنطقة لعقود.. والجيوش التي كانت مهيأة لخوض حروب شاملة ستعيد ترتيب أولوياتها، لتصبح أكثر تخصصًا في حماية الحدود ومكافحة الإرهاب، مع استثمار أكبر في التكنولوجيا الأمنية والاستخبارات الحديثة.. هذا الاستقرار الأمني سيفتح الباب أمام إنشاء «قوة سلام شرق أوسطية» تحت مظلة جامعة الدول العربية أو منظمة التعاون الإسلامي، تكون مهمتها منع أي فراغ أمني والحفاظ على التوازن الإقليمي، بما يضمن عدم عودة التوتر أو تدخل قوى خارجية لفرض نفوذها.


البعد الثقافي والاجتماعي لهذا المشهد لا يقل أهمية عن الجوانب السياسية والاقتصادية. فالقدس، التي ستكون عاصمة فلسطين، ستتحول إلى مركز روحي وثقافي عالمي، تستقبل ملايين الزوار سنويًا من المسلمين والمسيحيين واليهود الراغبين في زيارة مقدساتهم في بيئة آمنة.. والحركة بين مدن المشرق ستصبح سهلة، وستزدهر السياحة الدينية والثقافية، لتعيد إحياء المراكز التاريخية في دمشق وبيروت وعمان وغزة ويافا وحيفا.. والجيل الجديد سيكبر في بيئة أقل توترًا وأكثر أملًا، ما سينعكس على معدلات الإبداع الفني، والنمو العلمي، والابتكار التكنولوجي، بعد أن كان الهاجس الأمني يطغى على كل شيء.


أما عالميًا، فإن غياب إسرائيل سيعيد تشكيل موازين القوى على نحو ملحوظ.. الولايات المتحدة وأوروبا سيفقدان أحد أبرز مبررات التدخل المباشر في شؤون الشرق الأوسط، ما قد يخفف من حدة الاستقطاب السياسي بين الشرق والغرب.. والطلب العالمي على السلاح قد يشهد انخفاضًا في المنطقة، بينما يزداد التركيز على الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية.. وفي المقابل، ستظل المنطقة محل اهتمام القوى الكبرى، لكن بوصفها سوقًا واعدة وممرًا استراتيجيًا للتجارة العالمية، لا كساحة صراع دائم.. هذا التغيير في نظرة العالم للشرق الأوسط يمكن أن يفتح الباب أمام تحالفات اقتصادية جديدة، وربما يشجع دولًا آسيوية وأفريقية على تعزيز علاقاتها بالمنطقة في إطار مبادرات التنمية المستدامة.


رغم هذا التصور الإيجابي، لا يمكن إنكار وجود تحديات ضخمة أمام تحقيق شرق أوسط مزدهر بعد غياب إسرائيل.. فالمنطقة تعاني من خلافات تاريخية بين بعض الأنظمة، ومن أزمات سياسية واقتصادية متراكمة.. وضمان استقرار سياسي حقيقي يتطلب إصلاحات داخلية جريئة، وتطوير أنظمة الحكم بما يتناسب مع طموحات الشعوب.. كما أن حماية الموارد الطبيعية من الاستغلال الخارجي ستكون أولوية قصوى، حتى لا تتحول الثروات النفطية والمائية والزراعية إلى أهداف جديدة لصراعات النفوذ.. والتحدي الآخر يتمثل في قدرة الدول على بناء منظومة تعليمية وتكنولوجية قادرة على المنافسة عالميًا، بما يضمن ألا يقتصر التغيير على الجغرافيا السياسية، بل يمتد إلى نوعية الحياة ومستوى التطور.


الفرصة الكبرى تكمن في تحويل الشرق الأوسط من ساحة نزاعات إلى جسر حضاري بين الشرق والغرب، ومن منطقة مشتعلة إلى مركز للابتكار والنمو.. يمكن لهذه المنطقة، بما تملكه من تاريخ وثروات بشرية وطبيعية، أن تصبح واحدة من المحاور الاقتصادية والثقافية الكبرى في العالم، إذا أحسنت استغلال الظرف التاريخي.. في هذا السيناريو، لن تكون فلسطين مجرد دولة مستقلة، بل رمزًا لقدرة الشعوب على استعادة حقوقها وصياغة مستقبلها.. والدول العربية، إن تمكنت من تجاوز خلافاتها وتوحيد رؤيتها، يمكن أن تصنع نموذجًا جديدًا للتعاون الإقليمي يقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.


إن الحلم بشرق أوسط بلا إسرائيل ليس مجرد تصور جغرافي، بل هو فكرة عن عالم أكثر عدلًا وأمانًا.. قد يرى البعض أن هذا المشهد بعيد المنال، لكن التاريخ مليء بالأحداث التي بدت مستحيلة حتى لحظة وقوعها.. فالأجيال التي عاشت ويلات الحروب قد لا ترى كل ثمار هذا التغيير، لكن الأجيال القادمة يمكن أن تنعم بثمار السلام العادل، إذا ما وُضعت الأسس الصحيحة اليوم.. وما بين الواقع والحلم، تبقى الإرادة السياسية والوحدة الشعبية هما العنصران القادران على تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة، بحيث يصبح الشرق الأوسط مكانًا تكتب فيه قصص النهضة، لا مآسي الصراع.

google-playkhamsatmostaqltradent