recent
أخبار ساخنة

حسن سليم يكتب: «ليس كل قريب.. قريب»

 

حسن سليم يكتب: «ليس كل قريب قريب»

حسن سليم يكتب: «ليس كل قريب.. قريب»



كثيرون يدخلون حياتنا بأقنعة وديعة، يلوحون بكلمات دافئة تشبه أشعة شمس صباحية، لكنهم في العمق لا يرون فينا سوى وسيلة تعبر بهم إلى ما يريدون.. الناس بطبيعتها تميل إلى مصلحتها أولًا، حتى أجمل العبارات قد تقال بدافع المنفعة، وكثير من الابتسامات لا تخلو من حسابات دقيقة لا نراها إلا حين تنقلب الأدوار.


الطيبة، حين تفيض عن الحد، تتحول إلى جسر يعبر عليه الآخرون بلا استئذان، وحين لا نضع حدودا واضحة، نصبح كأرض مفتوحة تستقبل كل عابر، حتى أولئك الذين لا يجلبون إلا الغبار.. فمن يظن أن قلبه حصن لا يخترق، سيندهش حين يكتشف أن الحصون تنهار من الداخل، لا من الهجوم الخارجي.


والأسرار التي نظنها في أيد أمينة، قد تتحول إلى سيوف مسلطة على رقابنا. ليس كل من يبتسم في وجهك حافظا لعهدك، فقد يأتي يوم تجد فيه ما همست به في لحظة ضعف يتردد على ألسنة الآخرين، محمولا على نبرة شماتة أو توبيخ.. فالخيانة لا تأتي دائما من البعيد، أحيانا تسكن في أقرب المقاعد حولك.


والنجاح، ذلك البريق الذي نظن أنه سيجلب لنا الإعجاب، غالبا ما يوقظ في النفوس غيرة خامدة.. فكل إنجاز تدفع ثمنه، ليس فقط من جهدك وسهرك، بل من راحتك وعلاقاتك.. وستكتشف أن البعض كان يصفق لك، لا حبا بما فعلت، بل لأنهم ظنوا أنك لن تصل، وحين وصلت تغير الموقف، وتحولت التصفيقات إلى همسات مثقلة بالانتقاص.


هناك من لا يحتمل أن يراك واقفًا بثبات، لأنه لا يستطيع أن يقف بنفسه.. سيحاول كسر ما يمنحك القوة، كي يشعر بأن توازنه أفضل منك.. هؤلاء لا يبحثون عن تفوقهم، بل عن سقوطك، وكأنهم لا يعرفون طريق الصعود إلا عبر دفع الآخرين إلى القاع.


والمديح، ذلك الصوت الناعم الذي يغرينا، ليس دائمًا جواز مرور إلى الاحترام.. بعضهم يجاملك اليوم ليرسم في ذهنك صورة عن وده، ثم يسخر منك غدا حين يغيب حضورك.. كم من كلمة ثناء كانت مجرد أداة لكسب القرب، وكم من ضحكة كانت بابًا لخيانة قادمة.


 لا أحد من البشر ينقذ أحدا بلا مقابل.. المقابل قد يكون مالا، أو ولاء، أو حتى لحظة ضعف تظل مدينا بها.. حتى الأيادي التي تمتد لتنتشلك من الغرق، قد تحمل في أعماقها نية لإبقائك مربوطا بحبل معروف لا ينقطع، حتى لو جففت ملابسك.


والنصيحة أيضًا ليست دائما ما تبدو عليه.. كم من فخ مغطى بعبارة «أنا أقول هذا لمصلحتك»، وكم من كلمات حريصة تخفي رغبة في إبطائك، أو تحويل مسارك بعيدا عن أهدافك.. فالنية، لا العبارة، هي ما يحدد قيمة النصيحة، ومصدرها يحدد اتجاهها أكثر من مضمونها.


وعند الشدة، تتساقط كل الأقنعة، ويظهر المعدن الحقيقي للناس.. قد تجد أن الغريب الذي لم تشاركه يوما مائدة أو ذكريات، يقف بجانبك أكثر من قريب تربطه بك سنوات وأحداث.. المواقف الصعبة هي غربال الحياة، تفرز لنا من يستحق أن نضعه في دائرة القلب، ومن لا يستحق سوى المسافة.


هكذا تمضي بنا الحياة، تعلمنا أن القرب الحقيقي ليس في الدم ولا في العشرة، بل في الصدق والنقاء والقدرة على حفظ الغيب.. إن من يعرف قيمتك لن يفرح لضعفك، ومن يحفظ سرك لن يلوح به في وجهك يوما، وأن النجاح الحقيقي لا يقاس فقط بما حققته، بل بمن بقي حولك صادقا بعد أن حققته.


فليست كل الأسماء التي تزين سجل حياتك جديرة بأن تكتب في الصفحة الأخيرة، وليست كل الكلمات التي قيلت لك تليق بأن تحفظها في قلبك.. أحيانا، علينا أن نتعلم فن الفرز، فن اكتشاف الصداقات التي تبنى على أرض صلبة، وتمييزها عن تلك التي تتهاوى مع أول ريح.. فالحياة ليست معركة ضد الآخرين، لكنها معركة للحفاظ على نقائك.


من يفهم هذه الدروس، لن يحمل في قلبه مرارة، بل سيحمل وعيا يمنحه حرية الاختيار، ويدا تعرف أين تضع العطاء، وعينا ترى خلف الابتسامات.. وحينها فقط، سيعرف أن القرب الحقيقي هدية نادرة، وأن ليس كل قريب… قريب.


google-playkhamsatmostaqltradent