في حضرة النور المحمدي
بقلم: حسن سليم
في هذه الأيام المباركة التي يفيض فيها النور وتتعطر فيها الأرواح بذكرى مولد خير البرية، تهفو القلوب إلى سيرة الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الرجل الذي لم يكن مجرد نبي مرسل، بل كان معلمًا للإنسانية، ومؤسسًا لحضارة ما زالت أصداؤها تتردد في أرجاء الكون حتى يومنا هذا. ميلاده كان فجرًا جديدًا للبشرية، إذ بزغ نور الحق في ليل الجاهلية الحالك، وأضاء للعالم طريق الهداية والرحمة. لم يكن العالم يومها يعرف معنى العدالة ولا كرامة الإنسان، فجاء محمد ليغرس في القلوب بذور الرحمة ويهدي العقول إلى عبادة الله الواحد.
تمر هذه الذكرى العطرة فتوقظ فينا معاني الأخوة والإيثار، وتدعونا أن نتأمل كيف كان ميلاد النبي لحظة فاصلة أعادت تشكيل الوعي الإنساني. لقد عاش الناس قبل البعثة في ظلمات من الجهل والتعصب والطبقية، فجاء الإسلام على يديه ليهدم الأصنام ويحرر العقول ويقيم ميزان العدل. وما أجمل أن نستعيد في هذا اليوم صورته وهو يمسح على رأس اليتيم، ويقود جيوش الرحمة لا جيوش الانتقام، وينشر السلام بين قبائل كانت لا تعرف إلا الثأر والدماء. كانت حياته كتابًا مفتوحًا في مكارم الأخلاق، فقد كان صادقًا أمينًا حتى قبل أن يُبعث، وكان قدوة في سلوكه وحلمه وتواضعه مع الكبير والصغير، ومع القريب والبعيد.
إن الاحتفال بالمولد النبوي ليس مجرد طقوس أو مظاهر فرح، بل هو تذكير بمعاني الرسالة التي حملها النبي الكريم، ودعوة إلى استلهام قيمها في حياتنا اليومية. نحن اليوم أحوج ما نكون إلى الرحمة التي غمرت قلبه، وإلى العدل الذي أرساه بين الناس، وإلى القوة التي واجه بها الظلم دون أن يتلوث قلبه بالحقد. فحين نقرأ سيرته ندرك أن النبوة لم تكن انفصالاً عن واقع الحياة بل كانت اندماجًا فيه وتغييرًا له نحو الأفضل. لقد أحب الناس جميعًا، ووقف إلى جانب الضعفاء، ورفض التمييز بين غني وفقير أو بين عربي وأعجمي، وأعلن أن معيار التفاضل هو التقوى والعمل الصالح.
نتذكر كيف أطفأ النبي نار الفتن بين الأوس والخزرج، وكيف جمع شملهم بعد أن كانوا أعداء متناحرين. تلك القدرة على بناء السلام وصناعة الأمل هي ما نحتاج أن نتعلمه اليوم، لا سيما في عالم يموج بالتحديات. لقد أسس محمد مجتمعًا يقوم على التكافل والتعاون، حيث الغني يعين الفقير، والقوي يحمي الضعيف، وحيث لا ينام أحد جائعًا في المدينة المنورة إلا وشعر الجميع بالمسؤولية. كانت دولته نموذجًا في إقامة العدل حتى على نفسه، إذ قال قولته الشهيرة: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. هكذا غرس مبدأ المساواة أمام القانون بلا استثناءات.
ولعل أجمل ما نتوقف عنده في هذه الذكرى هو الأمل الذي زرعه في قلوب أتباعه. فقد خرج من مكة مطاردًا ثم عاد إليها فاتحًا متواضعًا، عفا عن من آذوه، وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ما أعظم هذا الدرس في التسامح وفي الانتصار على الأحقاد! نحن اليوم بحاجة إلى أن نستلهم هذا الخلق في حياتنا الاجتماعية والسياسية، أن نتجاوز الضغائن ونفتح صفحة جديدة قوامها التعاون والبناء. فالأمة لا تنهض بالكراهية بل بالمحبة والعمل الجاد.
إن هذه الذكرى تدفعنا إلى أن ننظر داخل أنفسنا ونسائلها: هل نحن حقًا على قدر المسؤولية التي حملنا إياها خاتم الأنبياء؟ هل نحن صورة لما أراد أن نكون عليه؟ إن العودة إلى سنته ليست ترفًا روحيًا بل ضرورة لبناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة التحديات. علينا أن نعيد الاعتبار للقيم التي نادى بها، قيم الصدق والعدل والرحمة والتسامح. علينا أن نربي أبناءنا على محبته لا بمجرد الكلمات، بل بأن نكون قدوة لهم في أفعالنا كما كان هو قدوة لأصحابه.
كما تذكرنا هذه المناسبة بضرورة الاهتمام بالعلم والمعرفة، فقد كانت أول كلمة نزلت عليه اقرأ، في إشارة واضحة إلى أن بناء الأمة يبدأ من بناء العقل. العلم كان عنده عبادة، والمعرفة وسيلة للارتقاء بالإنسان. لذا علينا أن نستعيد هذا المعنى فنستثمر في التعليم والبحث العلمي، ونفتح أبواب المعرفة أمام شبابنا حتى يبدعوا ويبتكروا ويشاركوا في نهضة وطنهم. إن أمة محمد أمة اقرأ، ولا يليق بها أن تكون في ذيل الأمم من حيث المعرفة أو الإنتاج العلمي.
ومن القيم التي يجب أن نتوقف عندها في مولده الشريف قيمة الرحمة بالحيوان والبيئة، فقد كان ينهى عن تعذيب الحيوان ويأمر بالإحسان إليه، وكان يحث على غرس الشجر ويعتبر ذلك صدقة جارية. ونحن في زمن يهدد فيه التغير المناخي حياة الملايين، علينا أن نستلهم من سنته دعوة إلى حماية الأرض والحفاظ على مواردها للأجيال القادمة. إن الاحتفال الحقيقي بمولده يكون بأن نعيد التوازن إلى علاقتنا مع البيئة، وأن نتحمل مسؤوليتنا في مواجهة التلوث والجشع الذي يدمر الطبيعة.
ولأن المولد النبوي مناسبة تجمع المسلمين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، فهي فرصة لتجديد روح الوحدة والتآخي، وللتأكيد أن هذه الأمة أمة واحدة، تتجاوز الحدود الضيقة والانقسامات المفتعلة. فكما جمع النبي بين الأوس والخزرج، علينا أن نجمع بين أبناء الأمة في كل مكان، وأن نكون صوتًا للسلام والعدل. إن روح المولد تدعونا إلى أن نكون دعاة إصلاح لا مثيري فتن، وبناة حضارة لا هادميها.
إن مقالي هذا ليس إلا دعوة مفتوحة لكل قارئ أن يجعل من هذه الذكرى نقطة تحول في حياته، أن يبدأ مشروع إصلاح داخلي ينعكس على أسرته ومجتمعه. فلنحول مشاعر الفرح إلى طاقة عمل، ولنحول المدائح التي نرددها إلى أفعال تسعد من حولنا. فلنزرع شجرة، ولنطعم جائعًا، ولنعلم جاهلاً، فذلك ما كان سيفعله النبي لو عاش بيننا اليوم.
كل عام والأمة الإسلامية بخير، وكل عام ونحن أقرب إلى تحقيق حلمه ببناء مجتمع تسوده الرحمة والعدل والعلم. إن مولد النبي ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو ميلاد متجدد للأمل في كل قلب، ودعوة مستمرة لأن نكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. تلك هي رسالته الخالدة، وتلك هي مسؤوليتنا التي لا تنقضي ما دامت الأرض تدور والشمس تشرق.
