الاعتدال الديني: ضرورة اجتماعية لمواجهة الحداثة وعصر المجتمع 5.0
بقلم: أندي هاديانتو
الحداثة ليست مجرد مرحلة تاريخية قصيرة أو إنجازات تقنية متلاحقة، بل هي تحوّل عميق يعيد صياغة علاقة الإنسان بذاته وبالكون من حوله. ففي إطار ما يُعرف بـ المجتمع 5.0 يُوضَع الإنسان في قلب التنمية، حيث تُسخّر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتلبية حاجاته في مجالات الصحة والتعليم والبيئة والخدمات الاجتماعية. غير أن الحداثة ليست بريئة تماماً؛ فهي من جهة تمنح الإنسان فرصاً غير مسبوقة، ومن جهة أخرى تفرض عليه تحديات فكرية وأخلاقية معقدة. ومن هنا فإن السؤال المطروح هو: كيف يستطيع الإنسان أن يحافظ على هويته وقيمه الأصيلة، وفي الوقت نفسه ينفتح على العصر ليستفيد من منجزاته دون أن يغرق في دوامة التغير السريع؟ إن الاعتدال الديني يقدَّم هنا كبوصلة تساعد على الجمع بين هذين البعدين المتناقضين.
ورغم أنّ الحداثة تحمل وعوداً بالراحة والرفاهية، إلا أن صورتها ليست مشرقة بالكامل. فهي تقدّم وسائل متطورة للسفر والاتصال والمعرفة، وتفتح أبواب الاقتصاد والإبداع، لكنها في الوقت نفسه تعمّق الفجوة بين الطبقات، وتُنتج أنماطاً جديدة من التهميش الاجتماعي. فالمجتمع الذي قُدِّم على أنه "إنسان-مركز" لم ينجح دائماً في تحقيق العدالة، إذ سرعان ما تحوّلت بعض منجزاته إلى أدوات هيمنة واستغلال. وإذا غابت القيم عن مسار التقدم، فإن التقنية تتحول إلى سيف ذي حدين: يوفّر الرفاه لقلة، ويترك الأكثرية في دائرة التهميش. لذلك فإن حضور الدين وقيمه يصبح ضرورة ملحّة ليمنع الحداثة من الانزلاق إلى أداة استغلال تُفقد الإنسان كرامته.
ومن أبرز ما تخلّفه الحداثة المعاصرة ما يمكن أن نسميه بالأزمة الروحية. فالإنسان اليوم يملك أدوات الراحة والرفاه، لكنه يعاني من قلق داخلي لا يزول. حياته مليئة بالأنشطة والالتزامات، لكن قلبه يفتقد السكينة. فالتوتر والاكتئاب والإحساس بالفراغ أصبحت أمراضاً شائعة في المجتمعات الحديثة. وهذا يؤكد أن الوفرة المادية وحدها لا تكفي لبناء إنسان متوازن؛ فالحاجة إلى معنى يوجّه الحياة صارت أكثر إلحاحاً. والدين هنا ليس مجرد ملاذ فردي، بل إطار جامع يُعيد للإنسان توازنه، ويربطه بجماعة إنسانية أوسع تقوم على التضامن والرحمة. فبدون هذا البعد الروحي، يغدو التقدم سباقاً مرهقاً بلا نهاية ولا غاية.
كما انعكست الحداثة على صورة التدين نفسه. فقد انتشرت أنماط التدين الشكلي الذي يركز على الطقوس دون الجوهر، وتنامت تيارات متطرفة جعلت الدين وسيلة للإقصاء والعنف، بينما ابتعد آخرون عن الدين بدعوى أنه لا يواكب العصر. هذه المظاهر المختلفة تكشف عن أزمة في كيفية حضور الدين داخل الواقع الجديد. فالتدين الذي ينحصر في المظاهر يفقد معناه، والتدين الذي ينزلق إلى التشدد يتحول إلى عبء، والتدين الذي يغيب كلياً يُفقد المجتمع بوصلة القيم. لذلك هناك حاجة ملحّة إلى إعادة تقديم الدين بوجه معتدل، يوازن بين الثوابت والتغيرات، ويجعل من القيم الأخلاقية أساساً للتفاعل مع العالم.
إن مسؤولية الأديان في هذا العصر كبيرة، فهي لم تُنزل لتكون عائقاً أمام حركة الإنسان، بل لتكون دليلاً ينظم مساره. فالتقدم بلا قيم كالقطار بلا سكك، ينطلق بسرعة لكنه لا يعرف وجهته. والدين قادر على أن يكون بوصلة حضارية تمنع المادية الجامحة من سحق إنسانية البشر، وتمنع البراغماتية الضيقة من تحويل العلاقات إلى مجرد مصالح. لذلك فواجب المؤمنين اليوم هو أن يقدموا الدين بصورة حية، تُعين الإنسان على مواكبة العصر دون أن يفقد هويته. فبهذا فقط يصبح الدين قوة بناء وإصلاح، لا عائقاً أمام التطور ولا سبباً في الانقسام.
وفي هذا الإطار، يغدو الاعتدال ضرورة وجودية وليس مجرد خيار فكري. فالاعتدال يحمي الإنسان من خطرين متناقضين: خطر التطرف الذي يحوّل الدين إلى أداة للعنف والإقصاء، وخطر التفلت الذي يُفقد الدين جوهره ويحوّله إلى ممارسة شكلية أو مجرد عادة. الاعتدال هو التوازن الذي يمكّن الإنسان من أن يعيش دينه بصدق، وفي الوقت نفسه ينفتح على العصر بعقلانية. إنه الطريق الذي يمنح التدين معنى عملياً، يجعل منه قوة داعمة للتعايش الاجتماعي وبناء المستقبل. فبدون الاعتدال، يظل الدين إما أسيراً للتشدد أو ضحية للتهميش.
ويتجلى الاعتدال في البداية من خلال التوسط. فالمتوسط هو من يجمع بين الاستفادة من منجزات الحداثة والتمسك بالقيم. إنه يرفض الجمود الذي يعيق التطور، كما يرفض الذوبان الكامل الذي يفقد الهوية. التوسط موقف عملي يُتيح للإنسان أن يستثمر في العلم والعمل، من دون أن يجعل من المادة غاية نهائية. وهو في الوقت ذاته يُرسّخ القناعة بأن القيم الروحية جزء لا يتجزأ من الحياة. وبذلك يظل الاعتدال حارساً للهوية الإنسانية، مانعاً لها من الانزلاق نحو الإفراط أو التفريط.
ويظهر الاعتدال كذلك في قيمة العدل والإنصاف. فالعدل هو حجر الأساس لأي مجتمع متماسك، وهو ما يجعل من الدين قوة مقاومة للظلم لا أداة لتبريره. في المجتمعات التي يسود فيها الاعتدال، تُوزَّع الفرص بعدالة، وتُحترم الحقوق، ويُعامل كل فرد بكرامة. العدالة هنا ليست شعاراً مجرداً، بل ممارسة عملية في السياسات الاقتصادية، والأنظمة التعليمية، والقوانين. وبغياب العدل، ينهار السلم الاجتماعي ويظهر التطرف. لذلك فإن الاعتدال يجعل من العدالة مبدأ عملياً ينظم العلاقات ويحفظ التوازن بين الناس.
ومن أبرز ملامح الاعتدال أيضاً التسامح. فالتعددية سمة إنسانية لا يمكن إنكارها، والتسامح هو السبيل لتحويلها إلى مصدر غنى لا إلى عامل صراع. التسامح لا يعني التفريط في العقيدة، بل يعني الاعتراف بحق الآخرين في الوجود والاختلاف. إنه ما يحول المدارس وأماكن العمل والفضاءات العامة إلى ساحات للتعايش. وفي زمن العولمة، يصبح التسامح ضرورة ملحة للحفاظ على السلم الأهلي. فالمجتمع المتسامح هو الذي يجعل من تنوعه طاقة إبداعية تفتح الآفاق بدل أن تغلقها.
ويبرز الاعتدال كذلك في ثقافة الحوار والمشاورة. فالشورى تجعل القرار مشتركاً، وتمنع الاستبداد، وتُحوّل الاختلاف إلى طاقة إيجابية. في الأسرة تعني الشورى مشاركة الجميع في اتخاذ القرارات، وفي المجتمع تخلق التوافق، وفي السياسة تعزز الديمقراطية الحقيقية. الاعتدال هنا لا يكتفي بالدعوة إلى التفاهم، بل يجعله ممارسة يومية في إدارة الخلافات. فالحوار المستمر هو الذي يضمن أن يظل المجتمع متماسكاً رغم تعدده، وهو الذي يمنح الاعتدال قوة عملية تحميه من الانقسام.
ويتضح الاعتدال أيضاً من خلال روح الإصلاح. فالمجتمع المعتدل لا يقبل بالجمود، بل يسعى باستمرار إلى تصحيح مساره. الإصلاح يظهر في تطوير التعليم، ورعاية البيئة، وتقليص الفوارق الاجتماعية، ومكافحة الفساد. وهو لا يعني مجرد شعارات، بل أفعال ملموسة تجعل الدين قوة فاعلة في حياة الناس. فالإصلاح هو ما يضمن أن يبقى التدين حياً، قادراً على مواجهة تحديات العصر وتقديم حلول عملية. بهذا المعنى، الاعتدال ليس مجرد فكرة، بل حركة مستمرة نحو الأفضل.
ومن خصائص الاعتدال أيضاً القدوة. فالقيم لا تُنقل بالخطاب وحده، بل بالفعل والسلوك. القدوة الصالحة تجعل من الاعتدال ثقافة حيّة تُعاش في البيت والمدرسة ومكان العمل. المعلم الصبور، القائد النزيه، والأبوين الرحيمين، كلهم أمثلة تجعل القيم ملموسة في حياة الناس. وفي زمن الأزمات، يبحث المجتمع عن شخصيات تجسد الاعتدال لا عن خطابات نظرية. وهكذا تصبح القدوة قناة طبيعية تنقل القيم من جيل إلى جيل، وتمنح الاعتدال جذوره العميقة.
ويرتبط الاعتدال أيضاً بروح المواطنة. فالإيمان لا يتعارض مع حب الوطن، بل يعمقه ويقويه. المواطن المعتدل يرى في خدمة بلده جزءاً من التزامه الديني، فيحافظ على الوحدة، ويحترم القوانين، ويساهم في التنمية. المواطنة هنا ليست مجرد شعور عاطفي، بل ممارسة عملية تُترجم في الدفاع عن الوطن والمشاركة في بناء مؤسساته. وبذلك يظهر الاعتدال كقوة توحيد بين الإيمان والانتماء، ويثبت أن التدين الحقيقي هو الذي يصون الاستقرار ويعزز التنمية.
ومن ملامح الاعتدال رفض العنف. فاللاعنف ليس ضعفاً بل حكمة، وهو السبيل الأنجع لحل النزاعات. الاعتدال يجعل الحوار وسيلة للتفاهم بدل الاقتتال، ويزرع الاحترام المتبادل بدل الكراهية. ففي البيت يمنع العنف الأسري، وفي المدارس يواجه التنمر، وفي المجتمع يحمي من الفوضى. وفي عالم يشهد تصاعد التوترات، يصبح اللاعنف ضرورة لحماية الاستقرار. إنه ما يجعل الدين قوة سلام ورحمة، لا أداة قسرية تُفقده جوهره.
ويكتسب الاعتدال مرونته من الاعتراف بالعرف. فالثقافات المحلية ليست عقبة أمام الدين ما دامت لا تناقض جوهره، بل يمكن أن تكون وعاءً يُعبر فيه عن القيم. الاعتراف بالعرف يجعل الدين أقرب إلى الناس وأكثر قدرة على التفاعل مع واقعهم. وفي زمن العولمة، يصبح احترام التراث وسيلة لحماية التنوع من الذوبان في ثقافة موحدة. وهكذا يظهر الاعتدال في صورة متوازنة، تحافظ على الأصالة وتستوعب التعدد، وتمنع المجتمع من الانقسام أو الذوبان.
وباجتماع هذه الملامح، يغدو الاعتدال مشروعاً عملياً لبناء مجتمع متماسك. فهو لا يقتصر على ردع التطرف، بل يفتح آفاقاً لمجتمع عادل ومنفتح وسلمي. الاعتدال يجعل الدين طاقة إيجابية توحّد الناس، وتمنحهم القدرة على مواجهة الحداثة من دون فقدان هويتهم. إنه جسر يربط الثوابت بالتغيرات، ويمنع المجتمعات من الانزلاق نحو التشدد أو التفلت. وبهذا يصبح الاعتدال ضرورة حضارية لا غنى عنها في زمن المجتمع 5.0.
ويتأكد هذا المشروع في الأسس القرآنية التي قدّمت ثلاث ركائز أساسية للاعتدال. أولها تلاوة الآيات، أي قراءة دلائل الله في الكون والتاريخ والمجتمع. التلاوة هنا ليست مجرد ألفاظ تُتلى، بل فعل حضاري يدعو إلى التفكر والتعلم. فهي تفتح العقل على العلم، وتدفع الإنسان إلى البحث في الطبيعة لحمايتها، وفي التاريخ لاستخلاص العبر، وفي المجتمع لفهم آليات العدالة والتضامن. بهذه القراءة يصبح الدين محفزاً للعلم والعمل معاً، ويجعل الاعتدال قائماً على وعي نقدي متجدد.
وثانيها تعليم الكتاب، أي التربية على العلم والعدل معاً. فالتعليم القرآني لا يقتصر على نقل المعلومات، بل يكوّن شخصية متوازنة ناقدة ومنصفة. وهو ما يجعل الأجيال قادرة على الجمع بين العقل والروح، وبين الوطنية والعالمية. أما البعد القانوني في تعليم الكتاب فيضمن أن تتحول القيم إلى أنظمة ومؤسسات تحفظ الحقوق. بهذا يصبح التعليم والعدل معاً أساساً لاعتدال مستدام، يُعيد التوازن بين المعرفة والقيم، ويضمن أن يكون الدين قوة إصلاح لا مصدر جمود.
وثالثها التزكية، وهي عملية تطهير للحياة الاجتماعية من أمراض المادية واللذة المفرطة والنفعية الضيقة. التزكية ليست مجرد عبادة فردية، بل مشروع جماعي لإحياء الصدق والبساطة والتكافل. فهي تُعيد إلى العلاقات طابعها الإنساني، وتمنع التقدم من أن يتحول إلى استهلاك أعمى. ومن خلال التزكية، يُصان المجتمع من أمراض الحداثة السلبية، ويُعاد توجيه مساره نحو قيم الرحمة والإنسانية. إنها الركيزة التي تكمل التلاوة والتعليم، وتشكل معهما منظومة قرآنية تجعل الاعتدال قاعدة للحياة العامة.
وفي الختام، يظهر الاعتدال الديني كأقوى وسيلة لمواجهة تحديات الحداثة والدخول إلى عصر المجتمع 5.0. فهو يجمع بين التقدم والقيم، ويوازن بين الروح والمادة، ويربط بين المحلي والعالمي. الاعتدال يمكّن الإنسان من مواجهة التغير من دون أن يفقد هويته، ويجعله قادراً على التفاعل مع العصر من دون أن يسقط في التطرف أو اللامبالاة. هذا هو الوجه الذي يحتاجه العالم اليوم: دين رحيم، منفتح، إنساني، قادر على بناء حضارة أكثر عدلاً وتوازناً وإنسانية.
