recent
أخبار ساخنة

حين تفقد الكلمات معناها

حين تفقد الكلمات معناها


حين تفقد الكلمات معناها


بقلم: حسن سليم


أحيانا تأتي اللحظة التي تبدو فيها الكلمات كما لو كانت ظلالا باهتة لما كانت عليه يومًا ما.. نفس العبارات التي كانت توقظ في القلب دفئا خاصا، صارت اليوم تمر باردة، لا تترك أثرا إلا في العقل الذي يحاول فك شيفرة ما وراءها..


 ذلك الصوت الذي كان يبعث الطمأنينة ويزرع اليقين، يصبح مجرد صدى يتردد في الأذن، بينما يتوقف القلب عن التصديق، وكأنه يقول لنفسه: لقد تغير كل شيء..


إن الكلمات ليست مجرد أصوات نتبادلها لتملأ الفراغ بيننا، بل هي جسر مشاعر، وسيلة لنقل ما يختلج في أعماقنا. حين تقال بحب، تصبح مرآة تعكس الصدق، وحين تصدر من قلب نقي، تأخذ معناها الكامل بلا حاجة إلى تفسير.. لكن ما إن تبدأ النوايا في التغير حتى تتحول الكلمات نفسها إلى رموز محيرة، يظل العقل يفتش في خلفياتها بحثا عن المعنى الضائع.. يصبح لكل جملة وجهان، ولكل كلمة تأويلان، وكأنها لم تعد خالصة لمن توجه إليه، بل تحمل في طياتها رسالة إلى طرف غائب، مجهول لكنه حاضر بشدة..


وهنا، ندرك أن الثقة ليست أمرا هينا.. إنها ليست مفتاحا يمكن أن نعيد تدويره في القفل ذاته بعد كل خيانة أو شك أو ارتباك، بل هي شعور نادر إذا انكسر، يستحيل إعادته كما كان.. قالثقة تشبه قطعة زجاج شفافة، جميلة ورقيقة، إن تصدعت ولو مرة، ستظل الخدوش ظاهرة مهما حاولنا ترميمها..


إننا، كبشر، قد نغفر أحيانا، وقد نتجاوز عن الألم الذي زرعه الآخرون في قلوبنا، لكننا لا ننسى.. وحين نفقد الثقة فيمن نحب، نبدأ في اختبار كل كلمة تصدر منه، نحللها، نعيد قراءتها، نقيس وقعها على أرواحنا، وكأننا نبحث عن دليل يؤكد أو ينفي الشكوك العالقة..


 ذلك البحث المتواصل يرهقنا، ويجعلنا نشتاق إلى زمن كانت فيه الكلمات تلقى ببراءة، بلا حساب، بلا تردد..


الصدق وحده، الصدق النقي غير المشروط، قادر على إعادة الكلمات إلى معناها الأول..


 الصدق لا يعني فقط قول الحقيقة، بل يعني أن تنسجم الأفعال مع الأقوال، أن تصبح النوايا واضحة مثل شمس الظهيرة، وألا يكون في القلب مساحة خفية لرسائل مبطنة أو مشاعر مزدوجة.. فالقلوب بطبيعتها تعرف كيف تميز بين ما هو صادق وما هو مصطنع، حتى وإن حاول العقل خداعها..


ولذلك، عندما نشعر أن الكلمات فقدت معناها، علينا أن نتوقف لحظة ونصغي جيدا، ليس إلى ما يقال فقط، بل إلى ما لا يقال.. أحيانًا يكون الصمت أصدق من الكلام، وأحيانا تكون نظرة العين أقوى من ألف جملة.. نحن لا نطلب المستحيل حين نطلب الوضوح، ولا نبالغ حين نشترط الصدق، فالصدق هو ما يمنح العلاقة قيمتها ومعناها، وهو ما يجعل الكلمات تنبض بالحياة.


إن الثقة التي تفقد مرة واحدة تصبح أكثر ندرة في المرة التالية، وأكثر صعوبة في العطاء.. إننا لا نغلق أبواب قلوبنا قسوة، بل خوفا من أن نكسر أكثر، من أن نخسر آخر ما تبقى لنا من يقين في أن هناك من يستحق أن نصدقه بلا قيد أو شرط.. ولذلك، حين يقرر القلب أن يستعيد ثقته في أحدهم، يكون ذلك بمثابة ولادة جديدة، لا تحدث إلا إذا لمس الصدق أعماقه من جديد..


نحن لسنا ضد الكلمات، بل ضد فراغها.. نحن لا نكره الوعود، بل نخاف أن تصبح مجرد جمل محفوظة لا تحمل أثرا على الواقع.. نحن نبحث عن ذلك الصدق الذي يعيد للكلمات بريقها، الذي يجعلها تصل إلى القلب قبل أن تصل إلى الأذن، والذي يجعلنا نشعر أن ما نسمعه يخصنا وحدنا، لا يشاركنا فيه أحد، ولا يقال لغيرنا.


حين تفقد الكلمات معناها، لا تعود الحياة كما كانت.. لكن حين يعود الصدق إلى مكانه الصحيح، تعود الأشياء إلى نصاعتها الأولى، وتستعيد العلاقات قدرتها على التنفس، وتعود القلوب إلى الإيمان بأن ما يقال حقا يعني ما يقال، دون زيادة ولا نقصان.



google-playkhamsatmostaqltradent