recent
أخبار ساخنة

اللغة العربية: من الصف إلى الحياة

 

اللغة العربية: من الصف إلى الحياة

اللغة العربية: من الصف إلى الحياة


بقلم أندي هاديانتو

مدرس اللغة العربية والتربية الإسلامية


اللغة جسر الحضارة. وكذلك اللغة العربية، فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل أداة روحية وثقافية وفكرية. في قاعات الدرس كثيراً ما أشاهد كيف يُنظر إلى اللغة العربية بمزيج من الفضول والريبة. بعض الطلاب يشعرون بصعوبتها بسبب تراكيب النحو والصرف الكثيفة، بينما يرى آخرون أنها طريق لفهم القرآن الكريم والحديث النبوي والكنوز الفكرية الإسلامية الكلاسيكية. ومن هنا أرى أن من الضروري أن نغيّر نظرتنا إلى اللغة العربية: ليست مادة دراسية فحسب، بل مفتاحاً لآفاق أوسع في هذا العالم.


في إندونيسيا تحتل اللغة العربية مكانة فريدة. فهي ليست مادة إلزامية في المؤسسات التعليمية الإسلامية فحسب، بل أيضاً لغة للدبلوماسية والأكاديميا. لكن التحديات حاضرة دائماً. فكثير من الطلاب يرونها صعبة وبعيدة عن حياتهم اليومية، بل أحياناً تُصوَّر على أنها مقتصرة على الشأن الديني فقط. هذا التصور ينبغي تصحيحه. علينا أن نغرس الوعي بأن اللغة العربية لغة عالمية، لغة العلم، ولغة التجارة، ولغة التكنولوجيا أيضاً. ومع هذا الوعي يمكن وضعها جنباً إلى جنب مع اللغات الكبرى الأخرى كالإنجليزية والصينية والفرنسية.


كمعلم، أؤمن أن تعليم اللغة العربية يحتاج إلى تفعيل منهج الانغماس، أي إدخال الطلاب في بيئة لغوية حية. فلا يكفي أن نقتصر على النصوص والحفظ. يجب أن نُشرك الطلاب في المحادثة، وسماع الأغاني، ومشاهدة الأفلام، وقراءة الأخبار، بل وحتى خوض النقاشات باللغة العربية. وبهذا تصبح اللغة حيّة ووظيفية. عندما يشعر الطالب بأن العربية نافعة في حياته اليومية، ستزداد دافعيته ولن يعد يراها عبئاً، بل مهارة يعتز بها.


وألاحظ أن تعليم اللغة العربية في إندونيسيا ما زال أسير الأنماط القديمة. فالتركيز المفرط على القواعد يجعل الطالب فاقد الجرأة في الكلام. مع أن جوهر اللغة هو التواصل. لذا ينبغي أن يكون التعليم متوازناً بين الاستماع والمحادثة والقراءة والكتابة. في هذا السياق، يطالب المعلم بأن يكون مبدعاً، لا مجرد شارح للقواعد، بل ميسراً للتواصل. وعليه أن يجرؤ على إدخال الأبعاد الاجتماعية والثقافية للعالم العربي في الصف حتى يتذوق الطالب روح اللغة.


ولا ينبغي أن نتجاهل مسألة الوصم. هناك نظرة خاطئة تربط العربية بالإرهاب أو بالتخلّف. وهذا تصور غير صحيح إطلاقاً. فاللغة العربية لغة حضارة أنجبت علماء وفلاسفة وأدباء عظماء عبر التاريخ. ومن خلالها عرف العالم ابن سينا والخوارزمي والفارابي وغيرهم. ومهمتنا كمربين أن نفكك هذه الصورة السلبية ونستبدلها برواية جديدة: العربية لغة المستقبل، لغة التقدم والمنفعة العالمية.


في العصر الحديث، تتسع فرص إتقان اللغة العربية. فالشركات والمنظمات الدولية، بل والجامعات في الشرق الأوسط، تفتح آفاقاً واسعة للمتقنين لها. وهذا يعني للطلاب الإندونيسيين فرصة المنح الدراسية والعمل وبناء الشبكات العالمية. لذا فإتقان العربية ليس مجرد استجابة لمتطلبات المنهج الدراسي، بل استثمار بعيد المدى. وهنا تكمن أهمية زرع الوعي العملي لدى الطلاب وأولياء الأمور حول المنافع الحقيقية التي سيجنونها.


غير أن الوعي وحده لا يكفي. فلا بد من دعم سياسات تعليمية قوية. ينبغي أن يُصاغ المنهج بطريقة تقدمية، لا يركّز على حفظ المفردات وتحليل النصوص القديمة فقط، بل يشمل توظيف اللغة في السياقات العالمية. ويجب تحديث الكتب الدراسية، وتوسيع وسائل التعليم، ومنح المعلمين مساحة للإبداع. بل إن الاستفادة من التكنولوجيا الرقمية، كتطبيقات التعليم عبر الإنترنت، يمكن أن تثري التجربة التعليمية. مثل هذه الابتكارات شرط أساسي إذا أردنا للغة العربية أن تظل ذات صلة في عصر الثورة الصناعية الرابعة.


وأعتقد أن دور المعلم محوري في هذه الحركة. فينبغي أن يكون المعلم قدوة حيّة، لا يكتفي بمعرفة النظرية بل يبرهن كيف تُستعمل اللغة في الحياة. المعلم الطليق واسع الأفق المتفاعل مع العصر هو من يلهم الطلاب. وهنا يبرز التحدي الأكبر: رفع كفاءة المعلم من خلال الدورات، والتبادل الثقافي، وفرص التعلم في البلدان العربية. وبهذا سترتقي جودة تعليم العربية في إندونيسيا.


وأكثر من ذلك، أؤمن أن تعليم اللغة العربية له بُعد روحي عميق. فهو يفتح الطريق لفهم رسائل الله في القرآن الكريم على نحو أقرب. لكن هذا البُعد ينبغي أن يُدمج مع الأبعاد الاجتماعية والثقافية، كي لا يقتصر الطالب على قراءة الكتب، بل يكون قادراً على الحوار مع العالم. فاللغة العربية تصنع شخصية مسلمة متدينة ومفكرة وعالمية في آن واحد. وهذه هي جوهرية التربية الإسلامية الإنسانية.


وأخيراً، أؤكد أن تعليم اللغة العربية رسالة حضارية. إنه ليس مجرد مهنة، بل نداء لإعداد جيل قادر على مواجهة العولمة وهو متمسك بهويته. فالعربية تمنحهم جذوراً وأجنحة معاً: جذوراً راسخة في قيم الإسلام، وأجنحة تحلّق بهم إلى آفاق العالم. وهكذا يصبح كل صف لتعليم العربية، مهما كان صغيراً، مختبراً للمستقبل. ومن هناك تنبثق الآمال أن شباب إندونيسيا سيتحدثون إلى العالم بلغة الحضارة: اللغة العربية.

google-playkhamsatmostaqltradent