recent
أخبار ساخنة

الغياب عن الانتخابات ليس موقفًا ناضجًا بل هروب من المسؤولية

 

الغياب عن الانتخابات ليس موقفًا ناضجًا بل هروب من المسؤولية

الغياب عن الانتخابات ليس موقفًا ناضجًا بل هروب من المسؤولية


بقلم: د. بيتر ناجي

عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع وزميل جمعية الضرائب المصرية


في كل موسم انتخابي تتكرر المشاهد ذاتها: أصوات تبرر الغياب، وأخرى تبحث عن أعذار أنيقة لتغلف بها حالة اللامبالاة. البعض يردد أن المشاركة لن تغير شيئًا، وآخرون يتحدثون عن فقدان الثقة أو ضعف الجدوى، وكأن الانسحاب من المشهد موقف ناضج أو علامة على وعي متقدم. لكن الحقيقة المؤلمة أن هذه الأعذار هي التي تبقي الواقع كما هو، وأن الصمت الانتخابي لا يصنع إلا فراغًا يتسلل إليه من لا يستحق.


السياسة لا تنتظر أحدًا. فحين يختار المواطن الغياب، لا يتوقف الزمن احترامًا لخياره، بل يمضي في طريقه ليملأ الفراغ آخرون، ربما أقل وعيًا، وربما أكثر انتهازية. لأن الفراغ السياسي لا يبقى فارغًا أبدًا، فحين تنسحب العقول، يملأ الفراغ المال، وحين يسكت المتعلم، يتحدث الانتهازي، وحين يتخلى الصالحون عن أدوارهم، يتصدر المشهد من لا يملك ضميرًا أو رؤية.


المؤسف أن من يختار الغياب هو نفسه الذي يملأ النقاشات اليومية بالتحليل والتنظير. يتحدث عن الفساد، وعن غياب الكفاءة، وعن سوء الاختيارات، وكأنه لم يكن جزءًا من هذا الصمت العام الذي أفرز تلك النتائج. يشتكي من غياب الوعي الجمعي بينما هو أول من غاب، وينتقد المخرجات وهو الذي امتنع عن المشاركة في صناعة المدخلات. هذه المفارقة المؤلمة هي ما يقتل الأمل في التغيير، لأن الوعي الذي لا يتحول إلى فعل، يظل مجرد ضوضاء فكرية لا قيمة لها.


المشاركة في الانتخابات ليست ترفًا ولا استعراضًا ديمقراطيًا، بل هي جوهر المسؤولية الوطنية. هي اللحظة التي يمتلك فيها كل مواطن القدرة على أن يقول كلمته بوضوح، وأن يختار من يعبر عنه بضمير. كل صوت يذهب إلى الصندوق هو خطوة نحو الإصلاح، وكل صوت يغيب هو مساحة تترك فارغة ليملؤها من لا يستحق، لأن تجاهل المشاركة يعني ترك القرار لمن لا يملك الكفاءة أو النزاهة.


الانتخابات البرلمانية القادمة ليست مجرد مناسبة سياسية، بل اختبار لمدى وعي المجتمع. المشاركة فيها هي انعكاس لإيمان المواطن بأن التغيير لا يأتي بالتذمر، بل بالفعل. فكل ورقة توضع في الصندوق هي لبنة في بناء الدولة، وكل امتناع عن التصويت هو ثغرة في جدارها. من يظن أن الغياب نوع من الرفض الذكي أو الاحتجاج الصامت، إنما يخدع نفسه، لأن الصمت لا يسمع، والفراغ لا يصلح شيئًا، بل يسمح للفوضى بأن تتجذر أكثر.


لقد آن الأوان أن ندرك أن السياسة شأن الجميع، وليست حكرًا على فئة أو طبقة. فالمواطن الذي يشارك هو من يمتلك الحق الأخلاقي في النقد والمطالبة والمحاسبة، أما من يغيب بمحض إرادته، فقد تخلّى عن هذا الحق قبل أن يبدأ. الوعي لا يقاس بالكلمات، بل بالمواقف، والوطن لا يحتاج إلى محللين على المقاهي، بل إلى مشاركين في صناديق الاقتراع.


إن المشاركة في الانتخابات ليست رفاهية كما يظن البعض، بل مسؤولية تفرضها المواطنة. فكل صوت غائب هو مساحة يملؤها من لا يستحق، وكل امتناع عن الفعل هو مساهمة في استمرار ما نشكو منه. من يحب وطنه لا ينسحب من معاركه السلمية، ومن يريد الإصلاح لا يكتفي بالكلام، بل يتحرك. لأن التغيير لا يأتي لمن ينتظر، بل لمن يشارك، يؤمن، ويصوت.


google-playkhamsatmostaqltradent