الحرية المغلوطة والتلفظ البذيء في الشارع: أزمة قيم ومسؤولية مشتركة
بقلم: حاتم السعداوي
تشهد شوارعنا ومياديننا، للأسف، تناميًا لظاهرة مقلقة تتمثل في انتشار الألفاظ الخارجة والعبارات البذيئة على ألسنة فئة من الشباب والشابات الصغار. هذه الظاهرة لا تعكس مجرد سوء سلوك عابر، بل تشير إلى "حرية مغلوطة" يُساء فهمها وتطبيقها، وتدق ناقوس الخطر حول تآكل منظومة القيم والأخلاق العامة في المجتمع.
يعتقد البعض، تحت ستار التحرر والانفتاح، أن التعبير عن الذات يكون بكسر القيود الاجتماعية والتفوه بكل ما يخطر على البال دون اعتبار للآداب العامة أو مشاعر الآخرين. هذا الفهم المشوه للحرية يختلط فيه الانفلات بالتعبير، ويغيب فيه الرادع الذاتي والاجتماعي.
الأسباب وعوامل التقصير:
لا يمكن إلقاء اللوم على جهة واحدة، فالظاهرة هي نتاج تقاطع عوامل عديدة ومتشابكة:
1. دور الأسرة (الأب والأم):
الأسرة هي الخلية الأولى للمجتمع ومصنع الأخلاق. التقصير هنا قد يكون على مستويين:
غياب القدوة: عندما يسمع الأبناء والبنات ألفاظًا غير لائقة داخل المنزل، حتى لو كانت في سياق الانفعال أو المزاح، فإنهم يكتسبونها كجزء طبيعي من اللغة.
الإهمال التربوي: الانشغال المفرط للأبوين (الأب والأم) عن مراقبة سلوك الأبناء، أو التهاون في المحاسبة وتوضيح الحدود الفاصلة بين الحرية والانفلات، يخلق فراغًا قيميًا يملؤه الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي.
2. دور وزارة التربية والتعليم (المدرسة):
المدرسة هي الشريك الثاني في البناء القيمي، ويقع عليها دور كبير في:
التربية الأخلاقية لا مجرد التعليم: يجب أن تعود مادة التربية الدينية والأخلاقية لتكون مادة أساسية لا شكلية، تركز على غرس الاحترام المتبادل، وآداب الحديث، والحياء الاجتماعي.
المراقبة والمحاسبة داخل الحرم المدرسي: التهاون في التعامل مع الألفاظ البذيئة داخل المدرسة يعطي رسالة ضمنية بأن هذا السلوك مقبول.
3. دور المجتمع والهيئات والمؤسسات الإعلامية:
المجتمع بمؤسساته المختلفة يلعب دورًا رئيسيًا:
الإعلام والدراما: تُعد بعض الأعمال الدرامية والسينمائية وبعض المحتويات على الإنترنت بيئة خصبة لترويج هذه الألفاظ، حيث يتم تقديمها أحيانًا كجزء من لغة "الشجاعة" أو "الواقعية"، ما يشرعن استخدامها في نظر المراهقين.
الرقابة المجتمعية الإيجابية: تراجع دور "كبير العائلة" و"الجيران" في النصح والتوجيه، فالخوف من التدخل يغلب على الشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال الصاعدة.
المؤسسات الدينية: يجب أن يكون لها دور أكثر فاعلية في توضيح المفاهيم الصحيحة للحرية، ومكانة الكلمة الطيبة في الدين، والتحذير من خطورة الانفلات اللفظي على الفرد والمجتمع.
مجابهة الظاهرة الخطيرة: طريق العودة إلى القيم
مجابهة هذه الظاهرة تتطلب جبهة موحدة وعملًا متكاملًا:
المسؤولية الأسرية أولاً: على الأبوين أن يكونا قدوة حسنة، وأن يكرسا وقتًا للحوار الفعال حول مفهوم الحرية وضوابطها، وغرس قيمة الاحترام للذات وللآخرين.
تفعيل دور وزارة التربية: لا بد من مراجعة المناهج التربوية لتشمل برامج مكثفة لبناء الشخصية، والتأكيد على الآداب العامة كجزء من النجاح الاجتماعي، وتفعيل دور الأخصائي الاجتماعي والنفسي.
دور الهيئات والمجتمع المدني: يجب على منظمات المجتمع المدني وجمعيات حماية الأسرة والطفولة تنظيم حملات توعية مستمرة في الأماكن العامة والمدارس والجامعات، تستهدف الشباب وأولياء الأمور.
الرقابة الإعلامية والذاتية: على الهيئات المسؤولة عن الإعلام والدراما فرض ضوابط صارمة على المحتوى الذي يروج للانفلات اللفظي، وتشجيع الأعمال التي تقدم نماذج إيجابية. كما يجب على الأفراد (وخاصة الأهل) تفعيل "الرقابة الذاتية" على ما يشاهده أبناؤهم.
المعالجة القانونية والاجتماعية: لا بد من تطبيق القوانين المتعلقة بالآداب العامة بحزم أكبر، إلى جانب تبني برامج إرشاد نفسي واجتماعي للمخالفين لدمجهم مجددًا في إطار السلوك المقبول.
إن الحرية الحقيقية هي حرية مسؤولة لا تتعدى على حقوق الآخرين أو على الذوق العام. وهذه الظاهرة ليست مجرد سقطة لسان، بل هي مؤشر على أزمة تربوية وقيمية تتطلب من كل فرد ومؤسسة أن يتحمل مسؤوليته في إعادة بناء سور القيم الذي يحمي شبابنا ومجتمعنا.
