ثقافة الدم (بهاء المري)
عرض. طارق أبو حطب
في زحام الحياة اليومية، تمر الأخبار كالعواصف العابرة. نتابعها سريعًا، ثم نغلق الشاشات، ونمضي. لكن بعض الأخبار ليست كغيرها، وبعض الجرائم لا يجب أن تُنسى، لأنها لا تقتل إنسانًا واحدًا فقط، بل تُصيب الضمير الجمعي برصاصة، وتنذر بفقدان ما تبقى من إنسانيتنا.
حادثة "صبي المقهى والشاب الآخر". مشادة كلامية تتصاعد، صفعة تُقابَل بصفعة، كلمة تُردُّ بإهانة، ورصاصة تُطلق ليس فقط على جسد شاب، بل على قيم مجتمع بأكمله حتى ينتهي المشهد بجثة ودماء.
لكن المأساة الحقيقية تتجاوز تفاصيل الحادث. إنها جريمة تُعرِّي هشاشة القيم، وتكشف عن تصدعات في جدار الأخلاق، وغياب الوازع الديني والنفسي الذي يُفترض أن يردع الإنسان في لحظة الغضب.
ما حدث ليس لحظة غضب عابرة، بل انعكاس لتحوّل خطير في بنية التفكير الاجتماعي: غابت فكرة ضبط النفس، وحلّ محلها منطق الغلبة والسلاح. اختفى مفهوم الرجولة الحقيقية، فصار يُقاس بعدد الرصاصات، لا بقدرة الإنسان على الصبر والاحتواء.
في تلك اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة، لم يكن صوت الضمير غائبًا وحده، بل غاب صوت الدين أيضًا. أي دينٍ يُجيز أن تُراق دماء من أجل خلاف على مشروب أو كلمة؟
أين حديث النبي ﷺ: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب"؟ أين الآية الكريمة: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ" الإسراء: 33. أين الخوف من القصاص؟ من لقاء الله ودم المظلوم يصرخ بين يدي القاتل يوم الحساب؟
لسنا هنا بصدد مناقشة عقوبة، بل بصدد مساءلة ضمير. فالمشكلة لا تبدأ عند سحب الزناد، بل تبدأ من غياب التربية النفسية والدينية التي تجعل الإنسان يستحضر الله لا الشيطان عندما يشتعل الغضب في داخله.
الأزمة الأخطر التي نواجهها اليوم ليست فقط في تكرار مشاهد العنف، بل في قبولها كأمر طبيعي. حين يُصبح القتل "تفصيلًا" في خلاف، و"ردة فعل" متوقعة، فإننا أمام تحوّل مخيف في الوعي الجمعي. نحن لا نعيش فقط زمن الجريمة، بل زمن تبلّد الإحساس بالجريمة.
والأخطر من القتل، هو تطبيع القتل. أن تمر الجريمة في النشرات كخبر آخر، وأن نتعامل مع الدم كما نتعامل مع أخبار الطقس أو الرياضة. أن يُصبح العنف جزءًا من المشهد اليومي، وأن تُستهلك حكايات الرصاص كما تُستهلك عناوين الفن.
هذه الجريمة لم تقتل فردًا فقط، بل اغتالت فكرة "الحدود الأخلاقية" التي يجب أن تُحترم مهما بلغ بنا الغضب. وحين يصمت المجتمع، أو يتهاون، أو يُبرر، فإنه يُشارك –وإن بصمته– في الجريمة.
أيها الآباء: علموا أبناءكم أن الرجولة ليست في رفع اليد، بل في كظم الغيظ. أيها المعلمون: علّموا الطلاب أن الكرامة لا تُسترد بإهانة الآخر.
أيها الأئمة: لا تتركوا منابركم خالية من التحذير من الغضب، ومن دماء الأبرياء، ومن خطورة الاستخفاف بالنفس البشرية.
أيها المشرّعون: افتحوا نقاشًا وطنيًا حول ثقافة اللاعنف، ولا تكتفوا فقط بالنصوص الجنائية.
نعم، نحن بحاجة إلى عدالة قانونية صارمة، لكننا أحوج إلى عدالة داخلية… ضمير حيّ يجعل الإنسان يتردد ألف مرة قبل أن يمد يده، أو يُهين، أو يُطلق رصاصة.
الدم لا يمحو إهانة. والقتل لا يعيد كرامة. وما لا تفعله الكلمة بالحكمة، لن تفعله الرصاصة بالعنف.
ربما مات الصبي، لكنه ترك لنا درسًا خالدًا: أن الكلمة قد تُنقذ حياة، وأن الغضب لحظة… لكن ثمنها قد يكون أبديًا.
