recent
أخبار ساخنة

مجدي طنطاوي يرد على فراس السواح ويعيد قراءة التشابه بين القصص القرآني والأساطير الرافدية

Home

 

مجدي طنطاوي يرد على فراس السواح ويعيد قراءة التشابه بين القصص القرآني والأساطير الرافدية

مجدي طنطاوي يرد على فراس السواح ويعيد قراءة التشابه بين القصص القرآني والأساطير الرافدية


يثير بعض المثقفين، ومن بينهم فراس السواح، مسألة التشابه بين القصص الكبرى الواردة في التوراة والقرآن، مثل الخلق والطوفان، وبين الأساطير الرافدية القديمة، معتبرين أن هذا التشابه يمثل دليلًا على أن الأديان أعادت توظيف رموز أسطورية سابقة ومنحتها دلالات لاهوتية جديدة، وأن الفارق بين النصوص هو فارق تأويلي لا جوهري.


ويبدو هذا الطرح للوهلة الأولى علميًا ومنسجمًا مع مناهج المقارنة، إلا أنه عند التمحيص يكشف عن خلل فلسفي ومنهجي واضح، لأنه يخلط بين التشابه في الأثر والتشابه في المصدر، ويتجاهل الفارق بين وحدة الحدث واختلاف المرجعية والمعنى.


فالقرآن لم ينكر وجود أمم سابقة ولا رسل سابقين، بل قرر هذه الحقيقة بوضوح، وأكد أن الوحي الإلهي لم يبدأ مع رسالة بعينها، وإنما هو ممتد عبر التاريخ الإنساني، مع وجود رسل لم تصل أخبارهم كاملة إلى البشر. وهذا الإقرار يهدم من الأساس فرضية الاقتباس، لأنه لا يجعل الوحي وليد الأسطورة، بل يضع الأسطورة في موضع النتيجة لا المصدر.


وأمام العقل ثلاث فرضيات لا رابع لها: إما أن تكون الأساطير اختراعًا بشريًا محضًا ثم جاءت الأديان فاستعارتها، أو أن تكون الأساطير بقايا مشوهة لوحي إلهي قديم، أو أن يكون الوحي نفسه نتاج الخيال الأسطوري. والفرضية الأخيرة تسقط عقليًا، لأن الأسطورة بطبيعتها متناقضة ومتعددة الآلهة والغايات، بينما يقوم الوحي القرآني على وحدة الإله ووحدة الغاية والمعيار الأخلاقي.


أما الفرضية الأولى، فتصطدم بسؤال جوهري يصعب تجاوزه، وهو: من أين جاءت الرموز الكبرى المتشابهة في ثقافات متباعدة جغرافيًا وزمنيًا، في عصور لم تكن فيها وسائل تواصل منظمة تنقل الأفكار بهذا الاتساع والانتشار؟


ويبقى التفسير الأكثر اتساقًا مع العقل والنص، وهو أن الوحي سبق الأسطورة، وأن ما نطلق عليه اليوم أساطير ليس سوى رواسب ذاكرة دينية قديمة تعرضت للتحريف الشفهي والرمزي عبر الزمن، فتحولت من رسائل هداية إلى حكايات كونية متخيلة.


وهنا يتجلى الفارق الجوهري الذي يتجاهله دعاة نظرية الاقتباس، فالطوفان في الأساطير الرافدية يظهر بوصفه صراعًا بين آلهة متناحرة، بينما يقدمه القرآن باعتباره فعل عدل إلهي واحد. والخلق في الأساطير نتيجة فوضى كونية وصراعات غيبية، بينما هو في القرآن فعل قصد وحكمة ونظام.


وبذلك يصبح التشابه شكليًا في الحدث، لا في المعنى أو الغاية، فالقرآن لا يعيد توظيف الأسطورة ولا يمنحها معنى جديدًا، بل يسترد أصلها ويعيدها إلى معناها الأول قبل أن تشوهها التحريفات البشرية.


ويؤكد القرآن أن الناس كانوا أمة واحدة في الأصل، ثم وقع الاختلاف بفعل البشر لا بفعل الوحي، كما يوضح أن الرسل تعددوا عبر التاريخ، لكن الدين في جوهره واحد، قائم على الاستسلام لله وحده، وهو المعنى الكلي الذي دعت إليه جميع الرسالات.


وخلاصة القول، إن التشابه بين القصص القرآني والتراث الرافدي لا يمثل دليلًا على الاقتباس، بل يشير إلى وحدة المصدر الأول ثم تعدد مسارات التحريف عبر الزمن. ومن يتوقف عند أوجه التشابه دون البحث في الجذور والأصول لا يمارس نقدًا علميًا حقيقيًا، بل يكتفي بقراءة سطحية تغفل عمق الفكرة وجوهرها.


فالقرآن لا ينافس الأسطورة، بل يصححها، ولا يكرر التاريخ، بل يعيده إلى ميزان الحق.


google-playkhamsatmostaqltradent