السعادة في القرآن الكريم
بقلم: د. طارق عتريس أبو حطب
عضو هيئة التدريس بالأزهر
حين يقلب القارئ نظره في أنوار القرآن الكريم يكتشف أن السعادة فيه ليست فكرة أومشاعر عابرة بل هي بناء عميق أسس على صلة العبد بربه وعلى انسجام قلبه مع الغاية التي خُلق من أجلها والسعادة في القرآن ليست وعدًا مؤجَّلًا في الآخرة فحسب بل هي منهج حياة في الدنيا يغرس الطمأنينة ويهدي النفس إلى السكينة ويحرر الإنسان من قيود الخوف والقلق وقد ضمت الكتب كثيرا من المصطلحات المعرفة للسعادة لكن القرآن يقدم تعريفًا مختلفًا في جوهره إذ يربط بين السعادة وطمأنينة القلب وصلاح الحال
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
فالحياة الطيبة هي السعادة بل وحين يصف القرآن أهل الجنة
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾
فالنعيم هناك أثر وثمرة للرضا هنا
ويركز القرآن على أن السعادة تنبع من داخل الإنسان لا من خارجه. ليست مرتبطة بالمال ولا المنصب ولا الظروف فقد كان قارون من أغنى الناس ومع ذلك وصفه القرآن بالبغي بينما كان كثير من الأنبياء والفقراء الصالحين يعيشون سعادة القلب التي لا تُشترى وحينما يصرح الذكر الحكيم ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾نلمح أن السعادة تتجه إلى الداخل حيث يبقى نور القلب ثابتا لا ينطفئ
كما يشير القرآن إلى أن الشقاء الحقيقي هو شقاء القلب حتى لو توافرت أسباب الحياة كلها
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾
الضنك هنا ليس الفقر، بل الضيق الداخلي، انقباض النفس، عيشة بلا معنى وللسعادة محاور عديدة في القرآن الكريم تكمن في الإيمان والتوحيد والطاعة والعمل الصالح والذكر والقرب من الله والرضا والقناعة والصبر واليقين
فتبدأ السعادة من علاقة الإنسان بربربه فالتوحيد يمنح القلب ثابتًا لا يتزعزع
﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾
والعمل الصالح يربط الإنسان بالخير، ويشعره بأنه يؤدي دوره في الوجود وقد ربط القرآن بين السعي والرضا:
﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾
كما ورد الذكر في القرآن دواء القلب به تستقيم النفس وتستكين المخاوف ويستحضر العبد معية الله ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ ومن أعظم أبواب السعادة القرآنية باب الرضا ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ فالرضا عن الله يبدد القلق فالقناعة ليست ضعفًا، بل انسجام وتوازن مع حكمة الله ويأتي الصبر في القرآن قوة داخلية لا مجرد تحمل للمكاره ولهذا يرتبط بالصلاة واليقين
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وقد ابتلي الأنبياء فصبروا
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا ﴾
ولا تنفصل السعادة عن علاقتنا بالآخرين ومن هنا تأتي دعوة القرآن إلى بناء الأسر للسكن والسعادة ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ كما دعا إلى سلامة القلب والصدر و الرحمة والبر والعفو والإنصاف وصلة الرحم والإحسان إلى الناس ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ وأيضا ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ كما دعا لاستحضار السعادة في مواجهة الابتلاء
فالبشر كلهم يبتلون ولكن القرآن يجعل الابتلاء طريقًا إلى النضج، لا سببًا للشقاء ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾
ثم يعقبها بوعد تطمئن له النفوس
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ ولعلك لاحظت أن السعادة القرآنية لا تتجاهل الألم، لكنها تحوّله إلى طاقة و قوة ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ فهي مع وليست بعد
كأن اليسر جزء من ذات العسر وقر في قلب الإنسان خلال التجربة كما يوجّه القرآن الإنسان إلى أن يرى الدنيا دار ابتلاء، لا دار استقرار ويصف الحياة بأنها
﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ﴾ فهو يحرر الإنسان من زعمه أن السعادة في متاع الدنيا الزائل ويربط السعادة الكبرى بالآخرة ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ ليهب الإنسان توازنا
غلا يطالبه بالزهد المطلق ولا بالانغماس في الشهوات بل يجمع بين الأمرين
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ ومن هنا قرر القرآن وسائل عملية لتحقيق السعادة وفق القرآن كالمحافظة على أعظم أبواب السكينة وهي الصلاة والإكثار مما يحفظ القلب من التشتت وهو الذكر والدعاء سر الأسرار الذي لا يشعر العبد بالوحدة وينمي
حسن الظن بالله كأقرب طريق إلى الراحة النفسية ويؤكد على الإحسان إلى الناس بالمعروف الذي يملأ القلب نورًا والصدق الصادق الذي يمنح الصادق سترا لا يخشى معه افتضاحًا كما يحث على الإيجابية في مواجهة الأحداث وتزكية النفس في دعوة واضحة
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ كل ذلك يجعل السعادة مطلبا لا مهربا
من الواقع، ولا محاولة لتجميل الحياة بطلاء زائف بل هي حالة قلبية عميقة قائمة على الإيمان معمّدة بالعمل الصالح، مزكية بالأخلاق، محاطة بالطمأنينة، ومنيرة باليقين وحين يستقر هذا كله في القلب تتحقق
السعادة التي وعد الله بها عباده المؤمنين، وفتح لهم أبواب تحصيلها في الدنيا، وأتمّها لهم في الآخرة
﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾
