بين "ساعة الغرب" و"يوم الشرق": لماذا يسكنون المستقبل ونعيش نحن خلف قضبان "القهوة"؟
بقلم: حاتم السعداوي
في اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور، هناك عقل في "وادي السيليكون" أو مختبرات "برلين" يبتكر خوارزمية ستجعل حياتك أسهل غداً، بينما هناك على الجانب الآخر آلاف الساعات تُهدر في أزقة مدننا وقرانا على "طاولات المقاهي"، تُذبح فيها الطموحات تحت وطأة "الأدخنة" والأحاديث الفارغة.
إن الفجوة بيننا وبين الغرب ليست مجرد فجوة مادية أو تكنولوجية، بل هي في المقام الأول فجوة فكرية وجدانية؛ هم يستثمرون في "العقل" ليربحوا "الزمن"، ونحن نهدر "الزمن" لنخسر "العقل".
فلسفة الوقت: استثمار أم انتحار بطيء؟
الفرق الجوهري يكمن في "ثقافة الاستمرارية". الغرب يسأل: "كيف أبيع منتجاً كل ساعة؟ وكيف يخدم هذا المنتج أحفادي بعد مائة عام؟". إنهم يبحثون عن الاستدامة والابتكار، بينما في شرقنا المنهك، لا يزال الكثيرون يعيشون بعقلية "رزق اليوم"، يعمل اليوم ليأكل اليوم، ثم يستريح غداً بانتظار معجزة لا تأتي.
إن الجلوس لساعات طويلة على المقاهي أو الاستسلام للنوم المفرط ليس مجرد "راحة"، بل هو هدر للمال والفرص. تلك الأموال التي تُنفق على الرفاهية الزائفة بينما الأبناء أولى بكل قرش لبناء تعليمهم وصحتهم، هي في الحقيقة جريمة بحق المستقبل. الغرب أدرك أن الوقت هو العملة الوحيدة التي لا يمكن استردادها، لذا قدسوا "السرعة في الأداء" وجودة الإنتاج.
الاستثمار في العقول.. أين الخلل؟
يؤلمني، بل يمزقني، أن أرى الفرق الشاسع بيني وبين أقراني، وكأن بيني وبينهم "سنين ضوئية". بينما يبحث الغرب عن فكرة لتصنيعها وبيعها لنا، نبحث نحن عن أحدث هواتفهم لنستهلكها. هم يبتكرون "الفكرة"، ونحن نمول "ثرواتهم" بجهلنا.
هذا الجهل ليس نقصاً في الشهادات الجامعية، بل هو جهل ثقافي عام يبدأ من التربية؛ من الأم والأب الذين لا يزرعون في أبنائهم قيمة الوقت أو شغف الابتكار. نجد "النظرة تحت الأقدام" هي السائدة، بينما الآخرون يحدقون في النجوم. وحتى في مجتمعاتنا، نجد بصيص أمل في المدن التي بدأت تتبنى أفكاراً عملية، بينما لا يزال الريف غارقاً في بعض الموروثات التي تقدس "الاسترخاء" القاتل على حساب العمل المنظم.
صناعة "الغد" أم استهلاك "اليوم"؟
الغرب يبحث عن "كيف أبيع كل ساعة"، أي بناء منظومة تعمل من أجلك حتى وأنت نائم. أما نحن، فحبسنا أنفسنا في دائرة "العمل من أجل اليوم فقط"، وهي دائرة مفرغة تجعلنا دائماً في مؤخرة الركب، مستهلكين لما يفيض به فكرهم وتصنيعهم.
إن النضج الفكري يفرض علينا صرخة استيقاظ. إن الاستثمار الحقيقي ليس في "البناء والخرسانة"، بل في تغيير العقلية الاستهلاكية إلى عقلية إنتاجية. يجب أن نتوقف عن كوننا "صيداً" سهلاً لشركاتهم، ونبدأ في ترويض الوقت لصالحنا.
إن الشعور بالسبق عن الآخرين بـ "سنين ضوئية" هو شعور حزين وموحش، لكنه "مسؤولية". إذا لم نغير من أنفسنا، ومن طريقة تربيتنا لأبنائنا، ومن نظرتنا لقيمة الساعة الواحدة، فسنظل دائماً الزبائن الدائمين في معرض ابتكاراتهم.
