recent
أخبار ساخنة

«مزيد من القرب».. بقلم: د. سعيد المنزلاوي

 

«مزيد من القرب».. بقلم: د. سعيد المنزلاوي

«مزيد من القرب».. بقلم: د. سعيد المنزلاوي


في آخر لقاء جمع بينهما، كان يبدو عليها الخوف والحذر، كانت متحفظة في حديثها معها، على غير عادتها.

عبثًا حاول أن يفسر تلك التغيرات التي طرأت عليها.

تجمد قدح الشاي في يدها، كانت تريد أن تخفي ارتعاشة أناملها، كانت تحرص أن تبدو متماسكة أمامه، وكانت الكلمة تخرج من فمها متباطئة، متكاسلة، وحذرة.

كان يستحثها أن تتكلم، أن تفضفض إليه كما كانت، أن تبوح بمكنون صدرها، ولكنها أبت.

تركت قدح الشاي كما هو، واستأذنت في الانصراف، قبل أن يأذن لها، كانت قد غادرت المكان، وتركت مقعدها شاغرًا. تجمد في موضعه، كأنه تمثال صب من صخر، لم يكن يتوقع أن تغادر بهذه الصورة، ألجمه الموقف؛ فلم يفق إلا بعد أن وصلت إليه رسالة منها عبر الواتساب.

اعتذرت إليه في اقتضاب. أرسل إليها قلبًا؛ كأنما يريد أن يحيي موات قلبها، وأن يستعيد ما كان بينهما من وصال. لكنها لم تعر القلب أدنى اهتمام، وتجاوزته بكلمات متناثرة. لولا ما يتحلى به من صبر وأناة، لأغلق الهاتف، وانصرف لشأنه.

كانت ضنينة بالكلمات، وكان جوادًا بالوقت، يهدره بين يديها بغير حساب. ناشدها أن تكتب.. أن تسترسل في الحكي، أن تبوح بكل ما يعتمل في صدرها، لعلها إن باحت إليه أن تستريح.

قالت له: الكتابة تبقيني خائفة دائمًا، لأن كل كلمة أكتبها تعريني أمام الآخرين.

قال لها: وهل أنا من الآخرين؟

ألجمتها الكلمة؛ فلم تدرِ بما تجيب، فاكتفت بأن أرسلت إليه قلبًا أخضر، ثم محته على الفور. لكنه كان قد شاهد القلب حال إرساله وحال محوه، ما جعله يشعر بحيرة في أمرعلاقته معها.

قال لها في يأس: هل يريحك أن نبتعد؟

أجابت بعلامات استفهام ملأت فضاء الواتساب. تبعتها دقائق من الصمت، لاذ ـ خلالها ـ كل منهما إلى ذات نفسه دون أن ينبس ببنت شفة.

ثم شق فضاء الصمت بهذه الجملة التي فجرها ـ في وجهها ـ في لا مبالاة: سأتركك وشأنك. ثم أغلق الهاتف قبل أن ينتظر منها جوابًا. غادر المقهى، وسار لا يلوي على شيء.

انهمك في أعماله حتى ساعة متأخرة من الليل، ظل خلالها هاتفه مغلقًا. كان يشعر بالجوع الشديد، سريعًا أعد وجبة عشاء من المتاح لديه، ووضعها على الخوان أمامه. ما إن أعاد فتح هاتفه، وأعاد تشغيل البيانات؛ حتى انحدر سيل جارف من رسائل الواتساب والماسنجر، أكثر من ثلاثين رسالة كانت منها - وحدها.  

صرفته عن تناول عشائه، نسي جوعه، وراح يطالع في نهم شديد رسائلها، والتي دارات ما بين القلق عليه، والاعتذار إليه، و ... والحب.

حين اختارت أن تبتعد عنه، لم تكن تدري أن البُعد سوف يمنحها مزيدًا من القرب؛ وأن الشوق إليه سيدفعها إليه دفعًا؛ حتى إنها لم تتحمل بُعده عنها سحابة نهار واحد.

 لا يدي كم ساعة قضاها، وهو يحادثها وتحادثه، تحدثا في كل شيء، وباح كل طرف للآخر بحبه وشوقه ونجواه.

حين بزغ الفجر، كان الجوال يرقد في سكون على صدره، بينما عيناه غارقتان في سبات عميق، فرك عينيه؛ ليستطيع قراءة رسائلها التي فاتته.

سألته: هل نمت؟

فأجابها بعد ساعتين من سؤالها، بل اصطحبتك معي في الحُلم. ثم راحا معًا ينسجان ملامح فجر جديد.


google-playkhamsatmostaqltradent